حديث النكبة مع جدتي

شَهد أبو إسحاق (فلسطين)
ورثت عن جدّتي جميلة قوّتها، وعنادها، أمّا اسمها ومآثره، فلن أحدّث ولا حرج عليَّ، لأنّه، فعلًا، ينقصني منها الكثير.
بيضاء كقطعة لفت، في وجهها الذي لفحته شمسٌ، لا تغيب، حبّتانِ من الزيتون المُعتّق، عينان خضراوتانِ، يتحوّلن للونٍ بني عند البٌكاء.
جدّتي لا تعرف تاريخ ميلادها، في كلّ سنة من عيدي، كانت تدور بيننا المُحادثة نفسها:
- ستّي وينتا خلقتي؟
- سنة ال 35.
لا أنا عارفة السنة.. اليوم.. اليوم..
بعرفش يا ستّي، لما خلقت محداش سجّلني..
طيّب وستّي نجمة؟ (أمّها)
ولا ستّك نجمة..
معقول؟
تصمت: كلّ أيامي عيد يا ستّي، بس يرجع خالك وأولاده، بضلّش تاريخ ع حاله.
كانت جدّتي الصادقة تحزن لمحادثتي حينًا، لأنّ في صوتي، برأيها، شيئًا ما "يشلع" لها قلبها، وتراها، حيناً آخر، تطلب مني مناداة جدّتي الأُخرى، ثُريّا، لكي نروي الحاكورة. أراني أنبحُ طويلًا من دون أن يهتزّ لها جفن.
جميلتي التي لم تعرف، يومًا، أقسى من يوم الفراق، عاشت على حكايا البيك. جدّي المرحوم نمر، اتّكأت عليهِ في حياتها ومماتها، تعرف أنّ حلو عيشها لم يكتمل، بعدما هُجّرت. هيَ وهُوَ من قريتهما البروة، لأنّها كانت دائمًا متيقّنة أن الأرض أرض أصحابها، ولها فيها حقّ. جدّي هو الآخر بناهُ الصّبر، وحفر الزمن في جلده ما يكفي من العلامات، لأقولَ لهُ كَبُرت.
يوم الرّحيل وأوجاعه.
من دون إنذار ووعيد، شفناهن محاوطينّا، الهرب أو التمسّك وحياة سيدِك، وكبار البلد، قالوا لنا مسألة يومين ومنرجع. طلعنا نخبّط كفّات إيدينا ببعض. ما حداش أخذ شي غير أكلياتُه، وتناولنا الحصيرة ومشينا ورا الكوم.. وضلينا نمشي تا وقّف فينا الحال
أتساءل، كي لا أُسأل، لماذا تبدو القرارات، على سرعتها، هكذا؟ حمقاء؟
تجاوزوا، في حينها، الأيّام المعدودة حتى امتدَّت أسابيع، ولم تهدأ الأوضاع بعد.
بالفعل، وما كان لجدّي إلّا أن أقفل البيت، وحزم ما حزم من طعام وحاجيّات، وراحوا يسيرونَ باتجاه الغرب، وتوقفهم لم يكن طويلاً، حتى وصلوا إلى البحر، وإن قطعوه، ستضيق بهم السُبل، فما كان إلّا أن ربضوا في مكانهم.
تستسهلُ جدتي في حديثها:
مكنش بإيدنا نعمل اشي، تركنا البيت ونجينا بأرواحنا.. ماحملناش غير شويّة هالأكل، وقطعتين ملابس يغطّونا احنا والأولاد اللي ربيناهن، كل شبر بندر.. قالوا لنا راجعين.. رجعنا وما لاقيناش حالنا.. وما لقيناش مين يلقانا.
سيدك خيّط كلاسينه من شوالات السُكّر.. ونظاراته، إللّي إطارهن من ذهب، كانوا معلّمات باسمه، لاقاهن مع واحد من البلد، وما أخذهن.. كره هذاك النهار وكِرِه تواليه.. والإحساس سيّء لتتعايشي معاه، فأحسنلك تتحايلي علّي بيجيكِ.. الصّبر ثمّ الصّبر. هاي حياة خالك توفّى، وهو مغترب، وأنا تغرّبت بموتة هالبلد.
جدّتي.. ماذا لو سافرت، الآن، كما فعل خالي؟ أشعر بأنّ لدي هذا الهامش من الطّاقة، لأمنحه لغيري، وإن متت، مثلًا، سيتحوّل سفري نقطة واحدة وتتكسّر.
بتكيلي بميزان واحد؟ إستفتِ قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك. خالك سُهيل لمّا سافر، راحوا كل أهل البلد يودّعوه.. طلع بهالسفينة، وظلّ يلولح بإيده لحد ما وصل لنقطة مش شايفينه فيها. شلح قميصه وهاهات يا دمعي تكفكِف عن خدّي. هو ظلّ حدا ما إنتكبش وبِكي؟ إنت إن بدّك تسافري دوبك تلحقي المطار.
كلّا يا جميلة، لم يبقَ في الأرض من أحد، إلّا وبكى وانتكب، والمطار الذي تتحدثين عنه، يأخذ الناس حيث للمواساةِ طريق، فكيفَ أضع كفّي على رأسي؛ ونحن، الغرباء، لمْ تمسّنا الوحدة إلا ساعات؟
كثيرة الأسئلة والأسباب كثيرة النظر إليكِ، ونعمَ الأوطانِ أنتِ.
بئس الأحفادِ أنا، وملامحك تشبه وطني البعيد، ولا تفرطينَ في إحصاءِ عظمةِ ما كان باطنًا فيكِ
بئس الكائناتِ أنا، لا ألتفتُ لوطني إلّا قليلًا، وقد أمرتني به، دائمة الانشغال بكِ، فنعمَ الجنّاتِ أنتِ.
جدّتي، اليوم، لا أستطيع تمييز أقرباء ذاك الجندي الذي طردكِ، ولا رتبة العسكري الذي داهمكم، يدايَ خاويتان. جرّحتهما قلّة التجربة. الوطن لم أعرفه إلّا معك، وَصِلَتي بعقلك وشمسكِ التي تنشقّ لتمسح عن الظُلمةِ وجهها.
حبيبتي، لا أدرك المغزى، تمامًا، عندما تعاود الذكريات كرّتها، وترغمني على الهرب من جديد إلى دفتري الصغير. أنا آسفة، لستُ معنيّة، وهذه، بدورها، نكبةٌ أخرى. قولي لي، أيُّ ألمٍ يُكتَب هذا؟ ألم لا يتعارض مع التخطيط، ولا مع خفّة الاحتمالات.
النّكبة.. أيُّ ذراعٍ تمتدّ لتُحكمَ قبضتها في حلقي؟ وأيُّ غصّةٍ وقحة، دُسّت في فمِ التاريخ!
بيضاء كقطعة لفت، في وجهها الذي لفحته شمسٌ، لا تغيب، حبّتانِ من الزيتون المُعتّق، عينان خضراوتانِ، يتحوّلن للونٍ بني عند البٌكاء.
جدّتي لا تعرف تاريخ ميلادها، في كلّ سنة من عيدي، كانت تدور بيننا المُحادثة نفسها:
- ستّي وينتا خلقتي؟
- سنة ال 35.
لا أنا عارفة السنة.. اليوم.. اليوم..
بعرفش يا ستّي، لما خلقت محداش سجّلني..
طيّب وستّي نجمة؟ (أمّها)
ولا ستّك نجمة..
معقول؟
تصمت: كلّ أيامي عيد يا ستّي، بس يرجع خالك وأولاده، بضلّش تاريخ ع حاله.
كانت جدّتي الصادقة تحزن لمحادثتي حينًا، لأنّ في صوتي، برأيها، شيئًا ما "يشلع" لها قلبها، وتراها، حيناً آخر، تطلب مني مناداة جدّتي الأُخرى، ثُريّا، لكي نروي الحاكورة. أراني أنبحُ طويلًا من دون أن يهتزّ لها جفن.
جميلتي التي لم تعرف، يومًا، أقسى من يوم الفراق، عاشت على حكايا البيك. جدّي المرحوم نمر، اتّكأت عليهِ في حياتها ومماتها، تعرف أنّ حلو عيشها لم يكتمل، بعدما هُجّرت. هيَ وهُوَ من قريتهما البروة، لأنّها كانت دائمًا متيقّنة أن الأرض أرض أصحابها، ولها فيها حقّ. جدّي هو الآخر بناهُ الصّبر، وحفر الزمن في جلده ما يكفي من العلامات، لأقولَ لهُ كَبُرت.
يوم الرّحيل وأوجاعه.
من دون إنذار ووعيد، شفناهن محاوطينّا، الهرب أو التمسّك وحياة سيدِك، وكبار البلد، قالوا لنا مسألة يومين ومنرجع. طلعنا نخبّط كفّات إيدينا ببعض. ما حداش أخذ شي غير أكلياتُه، وتناولنا الحصيرة ومشينا ورا الكوم.. وضلينا نمشي تا وقّف فينا الحال
أتساءل، كي لا أُسأل، لماذا تبدو القرارات، على سرعتها، هكذا؟ حمقاء؟
تجاوزوا، في حينها، الأيّام المعدودة حتى امتدَّت أسابيع، ولم تهدأ الأوضاع بعد.
بالفعل، وما كان لجدّي إلّا أن أقفل البيت، وحزم ما حزم من طعام وحاجيّات، وراحوا يسيرونَ باتجاه الغرب، وتوقفهم لم يكن طويلاً، حتى وصلوا إلى البحر، وإن قطعوه، ستضيق بهم السُبل، فما كان إلّا أن ربضوا في مكانهم.
تستسهلُ جدتي في حديثها:
مكنش بإيدنا نعمل اشي، تركنا البيت ونجينا بأرواحنا.. ماحملناش غير شويّة هالأكل، وقطعتين ملابس يغطّونا احنا والأولاد اللي ربيناهن، كل شبر بندر.. قالوا لنا راجعين.. رجعنا وما لاقيناش حالنا.. وما لقيناش مين يلقانا.
سيدك خيّط كلاسينه من شوالات السُكّر.. ونظاراته، إللّي إطارهن من ذهب، كانوا معلّمات باسمه، لاقاهن مع واحد من البلد، وما أخذهن.. كره هذاك النهار وكِرِه تواليه.. والإحساس سيّء لتتعايشي معاه، فأحسنلك تتحايلي علّي بيجيكِ.. الصّبر ثمّ الصّبر. هاي حياة خالك توفّى، وهو مغترب، وأنا تغرّبت بموتة هالبلد.
جدّتي.. ماذا لو سافرت، الآن، كما فعل خالي؟ أشعر بأنّ لدي هذا الهامش من الطّاقة، لأمنحه لغيري، وإن متت، مثلًا، سيتحوّل سفري نقطة واحدة وتتكسّر.
بتكيلي بميزان واحد؟ إستفتِ قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك. خالك سُهيل لمّا سافر، راحوا كل أهل البلد يودّعوه.. طلع بهالسفينة، وظلّ يلولح بإيده لحد ما وصل لنقطة مش شايفينه فيها. شلح قميصه وهاهات يا دمعي تكفكِف عن خدّي. هو ظلّ حدا ما إنتكبش وبِكي؟ إنت إن بدّك تسافري دوبك تلحقي المطار.
كلّا يا جميلة، لم يبقَ في الأرض من أحد، إلّا وبكى وانتكب، والمطار الذي تتحدثين عنه، يأخذ الناس حيث للمواساةِ طريق، فكيفَ أضع كفّي على رأسي؛ ونحن، الغرباء، لمْ تمسّنا الوحدة إلا ساعات؟
كثيرة الأسئلة والأسباب كثيرة النظر إليكِ، ونعمَ الأوطانِ أنتِ.
بئس الأحفادِ أنا، وملامحك تشبه وطني البعيد، ولا تفرطينَ في إحصاءِ عظمةِ ما كان باطنًا فيكِ
بئس الكائناتِ أنا، لا ألتفتُ لوطني إلّا قليلًا، وقد أمرتني به، دائمة الانشغال بكِ، فنعمَ الجنّاتِ أنتِ.
جدّتي، اليوم، لا أستطيع تمييز أقرباء ذاك الجندي الذي طردكِ، ولا رتبة العسكري الذي داهمكم، يدايَ خاويتان. جرّحتهما قلّة التجربة. الوطن لم أعرفه إلّا معك، وَصِلَتي بعقلك وشمسكِ التي تنشقّ لتمسح عن الظُلمةِ وجهها.
حبيبتي، لا أدرك المغزى، تمامًا، عندما تعاود الذكريات كرّتها، وترغمني على الهرب من جديد إلى دفتري الصغير. أنا آسفة، لستُ معنيّة، وهذه، بدورها، نكبةٌ أخرى. قولي لي، أيُّ ألمٍ يُكتَب هذا؟ ألم لا يتعارض مع التخطيط، ولا مع خفّة الاحتمالات.
النّكبة.. أيُّ ذراعٍ تمتدّ لتُحكمَ قبضتها في حلقي؟ وأيُّ غصّةٍ وقحة، دُسّت في فمِ التاريخ!