حتى لا نُؤتَى من قِبَلنا مرة أخرى

حتى لا نُؤتَى من قِبَلنا مرة أخرى

25 يونيو 2019
+ الخط -
يُحكى أن شاباً كان يعمل في رعي الإبل لقومه، وفي يوم من الأيام أغار عليه لصوص فضربوه وسرقوا الإبل، فعاد الشاب إلى قومه وحكى لهم ما جرى من أمر اللصوص وقال لهم: أشبعوني ضرباً وأشبعتهم سباً، وذهبوا بالإبل!

لا يختلف حال الراعي كثيراً عن مجتمعاتنا العربية، فنحن (الشعوب) الذين نملك كل الحق غالباً ما نقع في فخ ضياع حقوقنا (إبلنا) من قبل الأنظمة المستبدة التي كانت -ولا تزال- تمارس دور اللصوص علينا، ولا شك في أن لطريقة مواجهتنا لتلك الأنظمة دوراً كبيراً في النتيجة التي وصلنا إليها، وخصوصاً خلال مرحلة الربيع العربي، فطريقة إدارتنا للصراع مع (الأنظمة المستبدة) خلال السنوات الماضية لم تكن مكافئة للأسلوب الذي أدار به العدو صراعه معنا. وسأتحدث عن الثورة السورية نموذجاً.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن أي حرب لا بد أن تنطلق من (جوهر) للصراع بين طرفين؛ أحدهما صاحب الحق والآخر يسلبه إياه، وجوهر الصراع هذا يجب أن يكون واضحاً أمام صاحب الحق، حتى يختار الأدوات المناسبة للدفاع عنه أمام خصمه، وبقدر إدراكه لجوهر الصراع وتمسكه به تكون أدواته واضحة قوية، ويصعب على عدوه اختراقه أو إضعافه.


لا شك في أن جوهر الصراع في المرحلة الأولى من ثورتنا السورية كان واضحاً جلياً، وظهر ذلك من خلال لغة الخطاب الإعلامي الذي صدرته الثورة والذي كان يركز على قضية إسقاط النظام واسترداد حرية الشعب السوري، وكان لذلك الخطاب نتائجه الإيجابية على الأرض لصالح الثورة، وأكسبها دعماً وتعاطفاً من العالم كله.

نظام الأسد أدرك ذلك وتأكد أنه لن يستطيع الوقوف أمام موجة غضب الشعب وإنهاءها، فماذا فعل؟ حاول أن يحرف الثورة عن (جوهر) صراعها معه وجرّها إلى ساحة صراع أخرى مليئة بالجزئيات والتفاصيل ليفرغ الشعب طاقته فيها ويشغله عن قضيته المحورية، بدءاً بافتعال معارك جانبية إلى التركيز على جزئيات كالفساد والانحلال المجتمعي والظلم وما إلى ذلك من الجزئيات الصغيرة، فتحول الصراع أمام العالم مع مرور الوقت من قضية شعب ثائر ضد نظام مستبد إلى "حرب أهلية" الطرفان فيها متساويان، ووجدنا أنفسنا في حالة الدفاع بعد أن كنا في موقع الهجوم لأن قضايا كالظلم والفساد المجتمعي والسرقات وغيرها موجودة في كل مجتمع يعاني من الحروب.

ذلك الوضع أدى تدريجياً إلى انحسار الدعم والتعاطف العالمي مع الثورة، والذي غالباً ما يتشكل حول القضايا الكلية الجوهرية ولا يهتم بالقضايا الجزئية.

الأمر ذاته تكرر في حرب فصائل الجيش الحر مع تنظيم الدولة، ففي الوقت الذي لم يحِد فيه التنظيم في كل خطاباته وأدبياته عن وصف الفصائل بـ(المرتدين) و(الصحوات) - أي أن صراعه معهم كان من منطلق (عقائدي) - كان خطاب الفصائل متخبطاً، ولم تنطلق في حربها معه من المنطلق ذاته، فكان حشدها يدور حول اتهام قادته بأنهم (بعثيون) وعناصره بأنهم (مرتزقه) و(عملاء) و ..الخ، وهذا الخطاب ارتد بشكل عكسي عليها، لأن الكثير من تلك الاتهامات أيضاً موجودة فيها أصلاً، فكلنا يعرف أن معظم الضباط المنشقين كانوا منتسبين لحزب البعث، كما أن قضية الارتزاق والعمالة قلما يسلم منها أي جيش أو تشكيل عسكري.

إن الأنظمة المستبدة ضليعة في إشغال الشعوب بمعارك جانبية وتفاصيل جزئية تشغلهم عن جوهر صراعهم معه، ولذلك فإن أول خطوة في طريق فشلك هي أن يستطيع عدوك إشغالك عن قضيتك بتفاصيل وجزئيات صغيرة، لأن تلك الجزئيات غالباً ما تكون مشتركة وموجودة في معظم المجتمعات، وتركيزك عليها يضعك مع عدوك في الخانة ذاتها.

لا أقول إن طريقة تعاملنا مع الأحداث هي السبب الوحيد في ما وصلنا إليه الآن، فلا شك في أن هناك أسباباً أخرى كفارق القوة بين الطرفين، والمواقف (الدولية) التي كانت في مجملها في صف الأنظمة، إضافة إلى الأساليب (الدنيئة) التي سلكتها تلك الأنظمة في تعاملها مع الشعوب الثائرة والتي نأبى سلوكها ترفعاً لا عجزاً، كل ذلك كان له دور كبير في قلب ميزان القوى على حساب الثورات.

واليوم.. بعد 8 سنوات من التضحيات، يحاول عدونا تكرار التجربة ذاتها واختزال مكتسبات الثورة بالنتائج العسكرية المادية التي فرضها العالم علينا على أرض الواقع، حتى يقودنا ذلك إلى اليأس والاستسلام.

وهذا يحتّم على النخب أن تأخذ دورها وتعيد التركيز على قضيتنا المحورية، فصراعنا مع أعدائنا صراع فكر ولم يكن في يوم من الأيام صراعاً عسكرياً مادياً فقط، والنتائج لا تقاس دائماً بالمقياس المادي، فهناك ثمار فكرية واجتماعية ونفسية حققتها الشعوب هي أسمى وأغلى بكثير من النتائج العسكرية التي ربما لم نحصلها على الأرض، وهذا ما يجب تسليط الضوء عليه إعلامياً وإيصاله للناس. فعلى مدار 14 قرناً لم تقم الحضارة الإسلامية قط على الأسباب المادية، وإنما كانت تنصر بالعقيدة والفكر الذي تحمله، وزرع هذه القناعة في أذهان الناس هي أكبر مكسب نحققه حالياً، فالحرب جولات، وخسارة جولة أهون بكثير من خسارة فكر.
E369BD0D-C383-46BD-8721-E6766ECDA42B
محمود كريم

صحافي سوري خريج جامعة حلب قسم اللغة العربية، معد برامج وتقارير إخبارية لمؤسسات إعلامية سورية عدة.