حاشية عن الطبقة الوسطى في مصر

حاشية عن الطبقة الوسطى في مصر

11 اغسطس 2018
+ الخط -
في سياق عرضها روائع التراث الإعلامي والدرامي المصري، عرضت قناة "ماسبيرو زمان" أخيراً مسلسل "برج الأكابر" (إنتاج العام 1987)، والذي قام ببطولته الراحلان الكبيران حسن عابدين وعبد الله فرغلي، مع كوكبة من النجوم. وهو يُعدّ من أبرز الأعمال الدرامية في الثمانينيات، والتي رصدت أزمة الطبقة الوسطى المصرية، وحملت صيحة احتجاجية على ما حاق بها في مرحلة ما بعد حقبة الانفتاح الساداتي في السبعينيات، وما أثارته من موجات خلخلة قيمية وأخلاقية، وزلزلة طبقية واجتماعية، واسعة النطاق ضربت قطاعات واسعة من المجتمع المصري، ومثّلت تهديداً وجودياً للطبقة الوسطى، ومكانتها الاجتماعية ومنظومتها القيمية، من تلك الطبقة الطفيلية التي ظهرت بغتة في غفلة من الزمن، والتي أُثريَت بشكل مفاجئ من ممارسة أنشطة غير شرعية في فترة الستينيات، بعد قضاء الآلة الدولتية الناصرية على الرأسمالية الوطنية بدرجاتها كافّة (الكبيرة، والمتوسطة، وحتى الصغيرة)، عبر سلسلة طويلة مُتعسِّفة وخشنة من التأميمات، والمصادرات، وفرض الحراسات، وهو ما أفسح المجال واسعاً أمام تلك الطبقة الرديئة، لكي تتصدّر المشهد بسلاسة عجيبة من دون منافس، مع قدوم "الانفتاح"، وما دشّنه من أنشطة اقتصادية طفيلية، مثّلت ساتراً مثالياً للأنشطة الحقيقية لتلك الطبقة، بكل ما تحمله من جهل، وقبح، وسوقية.
جاء طرح أزمة الطبقة الوسطى في "برج الأكابر" عبر تفاعلات علاقة الجيرة التي جمعت بين أسرتي المستشار علوي بركات والمقاول فرج الطبيلي، وما أفرزته من تناقضات قيمية، وأخلاقية، واجتماعية، وموضوعية متعدّدة الجوانب بينهما، ومدى انعكاسات هذه التناقضات على جيل الأبناء في الأسرتيْن.
علوي بركات رجل القضاء ذو المركز الاجتماعي المرموق، والتكوين القيمي والعلمي والمهني المتميّز، مثّل الطبقة الوسطى، وما تحمله من قيم الأصالة، والتي وجدت نفسها بغتةً تتعرّض 
لحملةٍ عاتيةٍ من التجريف، والتهديد لأوضاعها الاقتصادية، والاجتماعية من طبقة طفيلية مُتسلِّقة (مثّلها فرج الطبيلي) ذات الثراء الفاحش المباغت، المجرّد من أي قيمة أخلاقية، والتي لا تعرف سوى لغة البيع والشراء، وهو ما انعكس على أذواقها بالغة التدنّي والانحطاط التي عملت على نشرها وفرضها على الجميع، بسطوة ما تملكه من ثروة طائلة.
كان الصدام حتمياً بين الطرفيْن، وكانت المعركة حامية الوطيس، وعلى الرغم من مركزه الوظيفي المرموق، فشل بركات في حماية أسرته من غارات القبح والانحطاط، بل إنه فوجئ باختراقها داره، وتسرّب قيم عصر "الانفتاح" المنحطّة إلى أبنائه، وسقوطهم في براثن قبح الطبيلي وفساده، واحداً تلو الآخر، بعدما صارت اهتماماتهم تنحصر في مدى القدرة على الاستهلاك، وهيمنة المظاهر والماديات دون سواها على تفكيرهم ورؤيتهم للحياة، ونظرتهم إليه على أنه ينتمي إلى عصرٍ، ولّى وانتهى منذ زمن بعيد.

كانت العلاقة العاطفية التي جمعت بين الطبيب سمير (نجل الطبيلي والاستثناء الوحيد في أسرته) وزميلته سحر كريمة بركات، والتي تُوّجت بالزواج، رسالةً بليغةً مفادُها بأن التعليم قادر على الارتقاء بصاحبه أخلاقياً واجتماعياً، وإزالة رواسب ظروف النشأة.
جاءت النهاية مؤلِمة، بسقوط مدحت، النجل الأكبر لبركات في مستنقع الفساد ومحاكمته، وهو ما دفعه إلى الاستقالة من عمله القضائي، لكي يتولّى بنفسه الدفاع عنه. وفي المشهد الأخير وقف علوي بركات أمام المحكمة مترافعاً عن ابنه، ليؤكّد أن قضيته قضية جيل بأكمله ضاع في دوّامة ظروفٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، لا ذنب له فيها، فضلاً عن تمزّقه في صراع وجودي بين العلم والأخلاق، والمال والثراء، مختتماً مرافعته بإرسال صيحة تحذيرٍ إلى كل القوى المجتمعية الفاعلة بأن يفيقوا على الواقع المرير، قائلاً: "ابني أمامكم.. فهل ترضون لأبنائكم هذا المصير؟".
في المقابل وفي الفترة الأخيرة، وبينما تواجه البقية المتبقية من الطبقة الوسطى تحديات حقيقية، وتهديدات وجودية، بسبب التوسّع في تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية متطرّفة، خرجت أعمال درامية عن الطبقة الوسطى من منظور أيديولوجي هجائي، وأثارت جدلاً واسعا بسبب الرسائل في طياتها، والتي رأى كثيرون أنها تتصادم بشدّة مع قيم المجتمع المصري بأكمله، وليس مع الطبقة الوسطى وحدها.
من حيث الشكل، وتحت مسمّى "الواقعية"، جاءت تلك الأعمال مُترَعةً بالألفاظ السوقية والخارجة (وهي بكل أسف آفة عامة اجتاحت الدراما المصرية أخيرا). أمّا من حيث المضمون، فقد ركّزت تلك الأعمال على بعض الآفات السلوكية، والانحرافات الأخلاقية التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية، والتي لا تمثّل، بأي حال، قاعدة في المجتمع، ولا ترقى حتى إلى مستوى الظاهرة، فهي تظلّ مجرّد حالات استثنائية، وكانت خلاصة الرسالة 
"التقدّمية" هجاء البورجوازية، ومكايدة شرائح المحافظين في الطبقة الوسطى، نظراً إلى إشكاليات أيديولوجية تاريخية بين بعض"التقدّميين" و"البورجوازية" المصرية.
ثمّة ثوابت قيمية وأخلاقية في أي مجتمع، تمثّل منظومته ومرجعيته التي يقوم عليها، والمعروفة بمصطلح "الأصول"، الكلمة الذهبية الجامعة التي تتداولها ألسنة عموم الناس بهدف الاحتكام إلى المرجعية، ومحاولة هدم هذه الثوابت صريحة، أو ضمنية، لهدم المجتمع.
تحت شعارات "الثورية" و"التقدّمية" المزعومة، والتمرّد على القوالب الاجتماعية التقليدية، وكسر تابوهات الثقافة الأبوية البالية، وقيود الرجعية، ظهرت فئة من "التقدّميين الجدد" الذين يسعون إلى تحطيم هذه "الأصول" القديمة بشتّى الطرق، في مقدمتها الدراما عبر "تطبيع" العلاقة بين المشاهدين من عموم المجتمع والنماذج "البورجوازية" المنحرفة سلوكياً وأخلاقياً، من أجل تسويغها وقبولها، كونها تشكّل "العاديّ والشائع". أمّا الأدهى فهو تصويرها في بعض الأعمال نماذج خيّرة وسويّة، بعكس النماذج الملتزمة بالقيم الأخلاقية، فهي نماذج مشوهّة نفسياً وإنسانياً (!).
كانت الدراما المصرية، في العقود الماضية، من أهمّ أدوات "القوة الناعمة" لمصر، لجودة نصوصها، ورقي مضامينها، فقد كان العالم العربي يشاهد المسلسلات المصرية، جيلاً بعد جيل، على النقيض تماماً من الفترة الحالية التي صارت فيها غالبية الدراما المصرية مثالاً للتردّي والإسفاف، وملاحقة الجمهور بكل قبيح من أجل إلفه واعتياده، وإلفُ القبيح مَتلَفةٌ للإحساس والعقل، وفقاً للراحل الكبير محمود محمد شاكر.