حاشية على التصعيد الأميركي - الإيراني

حاشية على التصعيد الأميركي - الإيراني

15 يناير 2020
+ الخط -
شهدت المنطقة أخيرا تصعيداً كبيراً في التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، حيث بوغت العالم بمقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، مع القيادي في الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، بغارة جويّة أميركية عبر طائرة مُسيَّرَة قرب مطار بغداد، على إثره توالت التصريحات الإيرانية التي أرعدت وأبرقت متوعّدة الولايات المتحدة بردّ انتقامي عنيف على اغتيالها سليماني، وبعدها بأيّام وفي التوقيت نفسه الذي قُتِلَ فيه سليماني، وقع هجوم إيراني على قاعدتي عين الأسد وأربيل في العراق، زعمت مصادر إيرانية أنه أسقط عشرات القتلى من الجنود الأميركيين، بيْد أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خرج بنفسه نافياً تلك المزاعم، مؤكّداً عدم وجود أي إصاباتٍ بين جنوده، توالت بعدها تصريحات عراقية وإيرانية كشفت عن وجود "تنسيق" مُسبَق بين الأميركيين والعراقيين والإيرانيين، أدّى إلى خروج مشهد "الردّ" الإيراني بهذه الصورة، أمّا وزير الخارجية الإيراني جوّاد ظريف فقال: "إنّ إيران لا تريد تصعيداً، وإن الضربات الصاروخية "تختتم" ردّ إيران على مقتل سليماني" وهو ما يفتح الباب مجدّداً أمام الوساطات، ويدعو بصورة ضمنية إلى التفاوض السياسي (السرّي والعلني) بين الطرفيْن.
بدايةً، يتعيّن توضيح رمزية قاسم سليماني في خريطة السياسة الإيرانية، فالرجل ليس مجرّد قائد عسكري رفيع وحسب، وإنّما يحتلّ مكانةً رفيعةً في النظام الإيراني، فهو مهندس التمدّد الإيراني 
العسكري والسياسي في المنطقة، والعقل المُدبِّر بالتخطيط والتنفيذ للتغلغل الإيراني في عدّة دول عربية، فلم يكتفِ سليماني برسم الخطط الحربية، وإنما كان ينزل بنفسه إلى ميدان المعركة، فعبر سليماني وفيلق القدس تمكنّت إيران من إنشاء شبكةٍ واسعةٍ من الوكلاء الإقليميين، أو الأذرع السياسية والعسكرية في العراق، وسورية، ولبنان، واليمن، حيث تولّى سليماني تدريب تلك المنظمّات وتسليحها، وتقديم الدعمين، العسكري والمالي، لها، لتكون أبرز أدوات السياسة الإيرانية التي تأتمر بأمرها وتعمل لصالحها.
عرفت العلاقات الدولية في النصف الأوّل من القرن العشرين مصطلح "الكومنترن الشيوعي/ السوفييتي" الذي كان يهدف إلى التمدّد الشيوعي في دول العالم، للقضاء على البورجوازية العالمية وإقامة جمهورية سوفييتية دولية، ولو طبّقنا هذا لمحاولة استقراء السياسة الإيرانية في المنطقة، يمكن القول إن إيران نجحت في إقامة "كومنترن شيعي" عبر فيلق القدس، فقد تمدّد النفوذ الإيراني في عدّة دول عربية، إمّا بصورة ناعمة عبر الهيمنة ورسم السياسة، أو بصورة خشنة عبر الوجود العسكري الصريح لوحدات إيرانية، أو عبر مليشيات تدين بالولاء لإيران، كما اقترن التمدّد السياسي الإيراني (عربياً بل وأفريقياً) بالتمدّد المذهبي الشيعي، فقد اعتمد التغلغل الإيراني على حلفاء مذهبيين في المقام الأوّل، من أجل تأسيس إمبراطورية إيرانية ذات طابع فارسي يتزيّا بزيّ مذهبي، ويرفع راية وحدوية إسلامية في أدوار عدّة احترفت السياسة الإيرانية المزج بينها، فبعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 بمساندة إيرانية غير مباشرة، قبل الغزو وبعده، عبر الأذرع الإيرانية من الكُتَل الشيعية، قفز العامل المذهبي/ الطائفي واحدا من العوامل الرئيسية التي يتمّ النظر من خلالها إلى التفاعلات الإقليمية في المنطقة، ومحاولة تفسيرها والتنبّؤ بمآلاتها.
تقوم السياسة الإيرانية تجاه الخليج العربي على عدّة ثوابت، في مقدّمتها اعتبار الخليج مجالاً حيوياً إيرانياً خالصاً، ومنطقة نفوذ خاصّة من دون شريك أو منافس، حيث تنظر إيران إلى أيّ وجود عسكري في الخليج (ولو كان وجوداً عربياً) بعين الريبة والشكّ، وتعتبره أجنبياً، ومصدر تهديد للأمن القومي الإيراني. وبطبيعة الحال، يكتسب الأمر طابعاً خاصّاً تجاه الوجود العسكري الأميركي نظراً إلى العلاقة المُعقَّدة متعدّدة الوجوه بين أميركا وإيران، والتي تدور بين التعاون والتنافس والتصارع بحسب الزمان والمكان.
من جهة أخرى، تعتمد إيران منذ ثورتها في العام 1979 في علاقاتها الإقليمية، على تفوّق 
قدراتها العسكرية على جيرانها من دول الخليج، الأمر الذي يدفعهم إلى البحث عن طرف آخر كي يوازن معادلة القوّة المختلّة، وحمايتهم من الخطر الإيراني الذي يتضاعف إذا ما أخذنا في الاعتبار القوّة الديموغرافية الإيرانية إلى جانب تفوّقها العسكري.
بين حين وآخر، تُقدم إيران على خطوات عسكرية بالغة الخشونة والخطورة، وهو ما تكرّر طوال الأشهر الأخيرة بصورةٍ واضحة، بدأت باستهداف إيران محطّات الضخّ السعودية، ثمّ استهداف ناقلات النفط في خليج عُمان، تلاها استهداف مطار أبها، ثمّ جاء حادث إسقاط إيران طائرة "درون" أميركية مُسيّرة، في عمليةٍ حملت قدراً كبيراً من الاحترافية بعد رصدها واستهدافها تحديداً، من دون الطائرة المرافقة لها، تجنّباً لقتل عسكريين أميركيين. كلّ تلك الخطوات التصعيدية تجاهلها الأميركيون، ما شجع إيران على المزيد، حتى وقع حادث مقتل المتعاقد الأميركي في العراق، ومحاصرة السفارة الأميركية ومحاولة اقتحامها، في خرق إيراني للخطوط الحمراء، فجاء الردّ الأميركي بقتل سليماني في عمليةٍ خاطفةٍ بدت أشبه بضغطة زرّ في لعبة فيديو، لتأديب إيران وإيقافها عند حدّها.
مثّل إقدام الأميركان على قتل سليماني تغييراً كبيراً في "قواعد الاشتباك" مع إيران، ما فتح الباب واسعاً أمام احتمالاتٍ خطيرةٍ بنشوب مواجهةٍ عسكريةٍ شاملة، بيْد أنّ الردّ الإيراني "المحسوب" والمحدود تكلفةً وأثراً والموجّه بالأساس إلى الداخل، بغرض حفظ ماء الوجه، أعاد الأزمة إلى مربّع التفاهمات، وهو الأمر الذي تتقنه إيران بعقلية تاجر البازار، بيْد أنّ المفارقة الطريفة تحقيق إيران مكاسب أخرى لا بأس بها بعد مقتل سليماني، أهمّها إجهاض الهبّة الشعبية الكبيرة في العراق، التي ربطت الفساد بالتغلغل الإيراني في الشأن العراقي، فقد تظاهر العراقيون أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء، وطالبوا بطرد البعثة الدبلوماسية الإيرانية، وحرقوا صور الخُميني.
أيّاً كانت مآلات التصعيد الأميركي - الإيراني، فإنّ الأمر الذي يعنينا هو حالة الفراغ العربي الكبير، فقد وقف العالم العربي وقفة المشدوه المبهوت حيال مقتل سليماني، وظلّ الصمت الرسمي العربي مُطبقاً فترة، قبل خروج تصريح من هنا أو هناك بصورة انفرادية، وكأنّ ما يحدث على الأرض العربية من البديهيات التي لا تستحقّ الانتباه! فيبدو لكلّ عين تُبصر أن مقعد القيادة ما زال شاغراً، وأنّه لا يوجد أيّ مشروع سياسي أو ثقافي عربي، وهو ما يقرع نواقيس الخطر ويستلزم وقفة مطوّلة، قبل أن يغدو مصطلح "النظام الإقليمي العربي" في ذمّة التاريخ.