Skip to main content
حادثة الأحساء.. الفتنة العميقة
بدر الإبراهيم
إحياء مراسم عاشوراء لدى الطائفة الشيعية في القطيف (6ديسمبر/2011/أ.ف.ب)

شكّل الهجوم على إحدى حسينيات قرية الدالوة، في محافظة الأحساء (شرق السعودية)، خلال إحياء ذكرى عاشوراء الأسبوع الماضي، صدمةً كبيرة لأطياف المجتمع السعودي، فهو الأول من نوعه في تاريخ السعودية. الجريمة المرتكبة في الأحساء فتحت المجال للنقاش حول عمق الأزمة الطائفية في السعودية، باعتبار الدافع الطائفي للهجوم على الحسينية، وتعددت ردود الأفعال على الجريمة، وكانت في غالبيتها الساحقة مستنكرة للحدث. الدولة، من جهتها، قبضت على أكثر من عشرين شخصاً، تقول إن لهم علاقة بالحادثة، وهيئة كبار العلماء استنكرت الحادثة مبكراً، فيما سارع "الوجهاء" في الحالة الشيعية إلى الحديث حول الوحدة الوطنية، في محاولة للعب دورٍ ما، من خلال الحادثة وتداعياتها.

انتشر خطاب التسامح والتعايش بشكل كبير، وروج له إسلاميون وليبراليون، كانوا بالأمس القريب يروجون للخطاب الطائفي. لا شك في أن هناك من استنكر الحادث في سياق متصل مع رفضه الطائفية، كما أن بعض الدعاة القريبين من خط الإخوان المسلمين، ممن لم يروجوا لخطاب الكراهية، استنكروا الحادثة، وتمزيق وحدة الأمة، لكن هذا لا يلغي أن كثيراً من المواقف المستنكرة، ليست لها علاقة برفض الطائفية، فمواقف معظم رموز السلفية الحركية، وغالبية المشايخ السلفيين من المعروفين بالتحريض الطائفي، جاءت مستنكرةً لزعزعة الأمن والاستقرار، ولم تكن رافضة السلوك الطائفي، وهذه الأصوات تخاطب الدولة لترفع الحرج عنها، ولا تتنازل عن خطابها الطائفي.

أسوأ استنكار جاء من ناشطين، ينتمون إلى الإخوان المسلمين، أو يدورون في الفلك الإخواني في المنطقة العربية، فهؤلاء مزجوا استنكارهم الحادثة ببكائياتهم وأوجاعهم الإقليمية، التي يسببها التراجع المستمر لجماعتهم في الإقليم، فلم ينتهوا من استنكار الحادثة قبل التساؤل عن موقف "الشيعة" في السعودية، من قوى شيعية تخاصمهم في المنطقة، واعتباره سبباً للاحتقان المؤدي إلى جريمة الأحساء. بالإضافة إلى مطالبة الآخرين باتخاذ (مواقفهم) السياسية، وجعلها معياراً للخير والصلاح والأخلاق، وكونهم يتصدرون مؤخراً حفلات الجنون الطائفي، التي تعقب أحداثاً في سورية والعراق واليمن، وإصرارهم على الرواية الطائفية للصراع في العالم العربي، يسهم تساؤل هؤلاء عن موقف الشيعة، ومطالبهم المتكررة، في تكريس الخطاب الطائفي، الذي يعتبر أتباع المذاهب جماعات سياسية، ولا يرى الفرد إلا عضواً في جماعته المذهبية، وبالتالي لا بد من أن يعلن براءته ممن يشاركه الانتماء المذهبي، وهذا تحديداً، ما يُعزز الحالة الطائفية، القائمة على تسييس الانتماءات المذهبية.

من الجيد أن يحصل استنكار واسع لحادثة الأحساء، لكن خطاب التعايش المفاجئ لا يعول عليه، كما أننا نجد أن الاستنكار لا يلغي ظهور الخطاب الطائفي وتغلغله، لذلك تظهر النقاشات حول أساس المشكلة الطائفية، وسبل معالجتها، ويُلاحظ التركيز على القنوات الفضائية الطائفية، بوصفها محرضة على الكراهية، والحديث المتكرر عن قوانين تجرم الخطاب الطائفي. اختزال المشكلة في القنوات الطائفية تبسيط مخل، لا يراعي أن حادثة الأحساء وتداعياتها جزء من أزمة المنطقة العربية، ووجود مشاريع سياسية طائفية متصارعة فيها، كما أن طرح حلول من نوع إيجاد قوانين تجرّم الطائفية، لا ينجح في حل المشكلة، فالتفريق صعب بين السجالات المذهبية والمفردات الطائفية العادية، وبين التحريض على العنف الطائفي، كما أنه يكرس خطوط التماس بين الطوائف، وتَرَصُّدَ أبناء الطوائف بعضهم بعضاً في التبليغ عن الخطابات الطائفية، وعليه، فإنه لا ينهي الأزمة الطائفية، لكنه يدير الخلاف بين الطوائف تحت سقف معين.

عمق المشكلة الطائفية في السعودية متعلق بأزمة الهوية الوطنية، وغياب المواطنة، فالهوية الوطنية الحالية هي هوية مذهبية ضيقة، تم تعميمها قسراً على مجمل المواطنين، وهي لا تمثل مشتركاً بينهم، وهو ما يجعل الجماعات الأهلية (الطوائف والعشائر) فاعلة في الفضاء السياسي، ومعبرة عن أفرادٍ لا تعبر عنهم الهوية الوطنية الحالية، التي لا تستوعبهم في إطارها. المسألة الطائفية لا تحل بالتقريب بين المذاهب، لأن الصراع الطائفي المنفجر في المشرق العربي ليس على الصحابة والأئمة، ولا على قضايا عقائدية أو تراثية، بل على النفوذ والحصص داخل الدولة، أو السيطرة على البلاد، وهو ما يعني أنه خلاف سياسي، نتج عن تحويل أتباع المذاهب إلى رعايا طوائف، تتحرك في الفضاء العام لتحصيل مصالحها، وهذا أمر يتجاوز خطاب الكراهية المذهبي، إلى تحويل الرابطة المذهبية إلى رابطة سياسية، لذلك يمكن أن تظهر الطائفية بصورة ناعمة، دون خطاب كراهية.

ليس المطلوب لعلاج الطائفية إزالة المذهب، بما هو تفسير معين للدين، ولا تحريم السجالات ومنع إظهار الخلافات المذهبية، فهذه باقية إلى يوم الدين، ولا التعايش بين رعايا طوائف، وبين أغلبيات وأقليات طائفية في الدولة، على الطريقة العراقية واللبنانية، فالتجربتان خير برهان على فشل هذه المعالجة. المطلوب هو هوية وطنية جامعة، تعترف بالشيعة جزءاً من جماعة وطنية، وتضمن الخصوصيات الدينية والثقافية، دون تسييس الهويات المذهبية والقبلية والمناطقية، والمطلوب أيضاً مواطنة متساوية، تقوم على ملكية المواطنين جميعاً للأرض، وليس على "تسامح" أغلبية مذهبية مع أقلية. الأزمة الطائفية أعمق من الحديث عن قنواتٍ فضائية، فهي أزمة سياسية، بحاجة إلى معالجة سياسية، تتعلق بالهوية الوطنية والمواطنة.