Skip to main content
جَعْجَعة بلا طحن
علي أنوزلا

الاتفاق الثلاثي المبرم بين ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وبمباركة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا يستحق كل الضجّة التي أثيرت حوله، فهو مجرّد حملة إعلانية كبيرة أدارها ثلاثة من كبار الساسة، اعتمادا على حملات العلاقات العامة لصيانة صورهم المهزوزة أمام رأيهم العام، كلٌّ لحاجة في نفسه. المستفيدان من هذا الاتفاق بالدرجة الأولى هما رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تطارده شبهات الفساد، والرئيس الأميركي الذي يبحث عن "حملة علاقات عامة" كبيرة، تنسي الناخب الأميركي فشله الدريع في إدارته السيئة أزمة فيروس كورونا التي كبّدت بلاده خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد. وبالنسبة للإمارات، الساعية هي الأخرى إلى ترميم صورتها بعد جرائم الحرب التي ارتكبتها في اليمن، والانتهاكات الفظيعة في حقوق الإنسان التي تطبع سجلها في هذا المجال، فإن ما خسرته وستخسره إعلاميا في مواجهة الرأي العام العربي والإسلامي أكثر بكثير من مفعول كل التصريحات والمقالات المجاملة التي لا تعدو أن تكون مجرّد نفخ في قربة مثقوبة، ففي وقتٍ وصف فيه ترامب الاتفاق بأنه "سلام تاريخي"، وقال نتنياهو إن اليوم الذي أعلن فيه "يوم تاريخي"، واعتبره بن زايد "خارطة طريق" ستقود المنطقة إلى سلام دائم، فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد تحصيل حاصل، وجعجعة بلا طحن، لا تستحق كل هذا الضجيج المثار حولها، لعدة أسباب.

أولا، لأن العلاقات السرية بين حكام الإمارات وإسرائيل ليست جديدة، ولم تبدأ اليوم، والتطبيع بين الدولتين كان قائما منذ سنوات على مستويات مختلفة، وبطريقة تدريجية، أحيانا مموهة وأحيانا كثيرة علنية، وعلى أكثر من صعيد. وما سيحدثه الاتفاق الجديد هو الكشف عن تلك العلاقة التي كانت قائمة أصلا وكانت تعتبر "سرّية"، فيما كان يعلم بها القَاصِي قبل َالدَّانِي.

لن تكون خطوة أبوظبي الأخيرة في موسم التطبيع العربي، ستليها عواصم عربية أخرى ستُخرج إلى العلن علاقاتها "السرية" مع إسرائيل

ثانيا، وصف الاتفاق بأنه اتفاق سلام، وهذه فِرية كبرى ومغالطة كبيرة، يسعى منها مهندسوه إلى إيهام اليمين الذي يصوّت لنتنياهو وترامب بأن السلام الذي تنتظره أكثر منطقة مُشتعلة في العالم أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فمعروفٌ أن اتفاق السلام يُبرم بين الدول والأمم التي تكون في حالة حرب، أو الخارجة توا من حالة نزاع مسلح. والمؤكّد أن الإمارات لم تخض في أي يوم حربا ضد إسرائيل، بل السائد بين الناس أنها شكلت طوال سنوات احتدام الصراع العربي الاسرئيلي حديقة خلفية لأجهزة الموساد، لتتبع حركات السياسيين والمقاومين والمجاهدين وسكناتهم، ممن كان يتم استدراجهم إلى مؤتمرات فنادق دبي وأبوظبي، للتجسس عليهم، أو لاغتيالهم بدم بارد كما حدث مع القيادي في حركة حماس الفلسطينية، محمود المبحوح، الذي اغتالته عام 2010 كتيبة من "الموساد" في غرفة فندقه في دبي، وغادر عناصرها الإمارات من دون أن يعترض طريقهم أي أحد، أو يحاسبهم أي كان حتى اليوم على جريمتهم الشنعاء!

الدول العربية التي سبقت الإمارات إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل لم تجن منه السلم المنشود ولا الاستقرار الموعود

ثالثا، التوقيت والسياق الزمني الذي أٌعلنت فيه الصفقة مؤشّران يدلان على أنها مجرد تحايل دعائي سَمِج، لثلاثة فاشلين، يبحث كل منهم عن طوق نجاة لنفسه. ترامب يبحث عن صفقة دعائية كبيرة تحقق له الفوز في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ونتنياهو يسعى إلى تحصين نفسه من ملاحقة قضاء بلاده له، ومن المظاهرات في تل أبيب التي تطالب برحيله، إذا ضمن استمراره في رئاسة الوزراء أكثر وقت ممكن يبقيه بعيدا عن مساءلة القضاء. وبن زايد يعتقد أن الحملة الدعائية لتحسين صورته في الغرب ستبرّئه من الجرائم الإنسانية التي ارتكبها في اليمن، وحتى إن تحقق له ذلك بفعل الأموال الكثيرة التي ينفقها على الدعاية لنفسه، فإن حكم التاريخ وحكم الشعوب عليه لن يرحمه. وما يجمع بين الثلاثي، بن زايد ونتنياهو وترامب، أنهم يعلنون عداءهم السافر لحقوق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، وفي نيلها حريتها وحقوقها. إنه "ثلاثي الشر" الذي وقف ويقف في وجه كل تجربة ديمقراطية في الدول العربية، ويحارب بكل الوسائل القوى الحية الممانعة أو المقاومة في المنطقة، حتى تستمر حالة الفوضى والصراعات التي تستنزف أكثر من دولة عربية.

اتفاق السلام يُبرم بين الدول والأمم التي تكون في حالة حرب، أو الخارجة توا من نزاع مسلح، والإمارات لم تخض في أي يوم حربا ضد إسرائيل!

كل الدول العربية التي سبقت الإمارات إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل لم تجن من ذلك السلم المنشود ولا الاستقرار الموعود ولا الازدهار الذي تم بموجبه تبرير تطبيع العلاقات مع دولةٍ لا عهد ولا ميثاق لها، ما زالت تحتل الأراضي الفلسطينية وهضبة الجولان وجزءا من جنوب لبنان، ويقصف طيرانها بشكل مستمر عاصمة دولة عربية، دمشق، وتسخّر بيادقها في المنطقة العربية لجعل الصراع المٌفتعل مع إيران في حالة احتدام دائم، يستنزف القدرة والزمن العربيين والفارسيين حتى تبقى إسرائيل القوة الوحيدة المستقرة في المنطقة. 

لن تكون خطوة أبوظبي الأخيرة في موسم التطبيع العربي، وستليها عواصم عربية أخرى ستُخرج إلى العلن علاقاتها "السرية" مع إسرائيل، وهذه موجودة في مشرق المنطقة العربية ومغربها، وما تعتبره علاقات من خلف الكواليس لم تعد خافية على أحد، وبالتالي لا غرابة من أن تكشف غدا أكثر من عاصمة عربية في الغرب أو الشرق عن تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية. وحتى في هذه الحالة، لن يغير ذلك أي شيء في قواعد اللعبة الأصلية، لأن التطبيع الحقيقي هو الذي يكون بين الشعوب وثقافتها، وهذا ما زال بعيد المنال لأن السواد الأعظم من الشعوب العربية والإسلامية ترفض كل أشكال التطبيع مع دولةٍ عنصريةٍ تقتل يوميا أطفال الفلسطينيين وتَسلب أرض أجدادهم وتحاصرهم في قوتهم اليومي. أما "سلام الشجعان" المُفترى عليه، فهو السلام الذي سيوافق عليه الشعب الفلسطيني، لأنه صاحب القضية الذي تحمّل أكبر ظلم تاريخي، وما زال يعاني ويكابد في صبر قل نظيره. وأي تطبيعٍ لا سند شعبيا له سيبقى مجرّد حبر على ورقٍ، لا يساوى قيمة الورق الذي طبع عليه.