جوزيبي فيردي: موسيقى تتطلع للدراما

جوزيبي فيردي: موسيقى تتطلع للدراما

28 يناير 2020
كان يُحكم في النبرة الغنائية (Getty)
+ الخط -
وصف الموسيقي الإيطالي، جوزيبي فيردي، نفسه، بأنه الأقل تعلماً بين الموسيقيين، لكن ذلك لم يمنعه من أن يصبح أحد أبرز مؤلفي الأوبرا في تاريخ الموسيقى. 
عند صعود فيردي (1813 - 1901)، الذي مرّت أمس 119 عاماً على رحيله، كانت الأوبرا الإيطالية تمر بمرحلة فراغ بعد موت بيليني وتوقف روسيني، فكان لنبوغه أن يُنصّب على عرش الأوبرا الإيطالية. عدا عن أن مسيرة صاحب أوبرا عايدة شكلت مرآة ملحمية لتاريخ وطنه، الذي كان تحت الاحتلال النمساوي. كانت فترة طموح قومي وتصاعد لنبرتها، ستفضي إلى استقلال إيطاليا ووحدتها للمرة الأولى منذ سقوط روما على يد القبائل الجرمانية في القرن الخامس الميلادي.

تلك الفترة، أيضاً، ستملي على ألحان فيردي بعض المضامين الثورية. مثلاً، امتلأت واحدة من أوبراته المُبكرة، "آتيلا"، بصوت النحاسيات، حدّاً دفع روسيني إلى وصفه بالمعتمر للخوذة العسكرية حين ألّفها. لكن طفح الموضوع الوطني بشكل مباشر في أوبرا "معركة لينيانو"، والتي تظهر فيها أغنية "عاشت إيطاليا" بأداء الكورال، وهي مسرحية تفاوت موضوع النقد فيها بين التمجيد والنقد، باعتبار أن الموضوع الوطني أفسدها ببعض التصنع.
أثارت أوبرا "جان دارك" على فيردي شهوة مقص الرقيب، بذريعة أنها ذات طابع ثوري، ليعيد معالجة الحبكة الدرامية المستوحاة من مسرحية للشاعر الألماني شيلر، لتصبح جان دارك رفيقة للشاعرة اليونانية سافيو.

شكلت أوبرا ماكبث مساحة من الحرية لـ فيردي لأنه ألفها خارج دائرة التكليف من المسارح التي رأت فيه الدجاجة التي تبيض ذهباً لشعبيته الجارفة. تبرز ماكبث افتتانه المبكر بمسرحيات شكسبير، ليعطيها شغاف قلبه، وتصبح عملاً أثيراً له، كما أن أغنية المنفيين في الفصل الرابع، وترنيمة المعركة La Patria Tradite غدتا نشيدي الحركة الثورية الإيطالية.
يمكن وضع فيردي في ذروة الرومانتيكية الإيطالية، باعتبار ثوريته الموسيقية لم تكن ذات أغراض شكلية، بل في أسلوبه المفعم بألحان مشرقة تحتفي بالميلودرامية مع مسحة عاطفية دافئة، إضافة إلى اقترانه المستمر بمزاج عصره الثوري.

قال فيردي عن نفسه إنه مؤلف ذو خبرة أكثر من كونه مؤلفاً متعلماً، واكتسب خبرته من المسرح. والأرجح أنه كان يؤكد الفارق بينه ومعاصره الألماني ريتشارد فاغنر، الذي اتسمت أعماله بتثوير شكلي وحذاقة المفكر. وعلى عكس فيردي المعتدل برومانتيكيته، حاول فاغنر إحداث نوع من القطيعة مع الكلاسيكية الموسيقية، تحديداً في إعطاء التنافرات الموسيقية دور البطولة في ألحانه وإعلانه بحتميته المُعتادة: نهاية عصر السيمفونية وبداية حقبة الموسيقى الدرامية.

في هذا السياق، تنامت سطوة فيردي وفاغنر في مسارين مستقلين ومتعارضين من حيث الأسلوب، وربما ألقى عصرهما المزدهر بالمشاعر القومية بظلاله على شعبيتهما. فينما تلبّس فيردي بحس الموسيقي الغنائي الرامز للروح الإيطالية، ارتدى فاغنر عباءة الفيلسوف الألماني.
خاض فيردي الابتكار في مجال اللحن، مع وجود تلك التراكيب الهارمونية البعيدة عن التعقيد. وعبر مساره، بدءاً من أوبرا نابكو مروراً بـ "ريجليتو" المأخوذة عن مسرحية للفرنسي فيكتور هيغو، و"لاترافياتا" المستوحاة من غادة الكاميليا، و"قوة القدر" و"الشاعر الغنائي"، سيصل في أوبرا عايدة إلى ذروة تطوره الدرامي، متخلصاً إلى حد كبير مما تبقى من أثر أسلافه، وإن ظل مخلصاً لشكل الأوبرا الكلاسيكية المقترنة بروح الرومانتيكية الغنائية.
تعطينا أوبرا عايدة كثيراً من الجوانب التي تجاوز فيها فيردي النقد، وتحديداً بعض ما تم اعتباره نقاط الضعف في بنيته الدرامية؛ إذ بدا للنقاد أقل براعة في الأفكار الثانوية، منه في تنفيذ أفكاره الرئيسية. يعطي فيردي، بحسب النقاد، كل شيء بنية درامية شديدة الإحكام، فصوت الميزو سوبرانو الذي تجسده ابنة الفرعون أمنيريس، اتّخذ شكل تعبير عاصف ينذر، أو يُلمح، بالتصعيد الدرامي المأساوي، كما لو كان يشق الالتقاء الساحر للعشق بين السوبرانو؛ عايدة، والتينور أرماديس قائد الجيش الفرعوني. أصوات الكورال أصبحت أقل، ربما لأنه ابتعد عن الأشكال الاحتفالية، أو الطقوسية في تصوراته التأليفية.
هناك أيضاً المزيد من الحبكة الخطابية، إذ كان فيردي يُحكم في النبرة الغنائية ويهمل في الأسلوب الخطابي، وهو ما أضفى تنوعاً درامياً واشتقاقات متناقضة في أول فصوله بين دور السوبرانو العذب المتصاعد في دور عايدة، والانحدار المُعتم لأصوات الباص في دور الكُهان. لكن التطور الأبرز كان في الصيغة الأوركسترالية، وخصوصاً في مضاعفة دور الإيقاعات والزخم الرنيني، وإن وجدها البعض متوحدة عضوياً في المعنى الدرامي، لكنها في الواقع تمثّل تجسيداً لتطور فيردي في التأليف الموسيقي.
سيظهر هذا الدور المتألق للأوركسترا في أوبريتيه الأخيرين؛ عطيل وفالستاف، وهما معالجتان أخريان لمسرحيات شكسبير. قبلها اعتزل التأليف، وربما خلال تلك الفترة أراد الاشتغال على الموسيقى؛ فألف عملاً موسيقياً وحيداً، هو رباعية وترية.
تبرز خصائص فيردي في النسيج اللحني الذي اتسم بثرائه، وبما يضفي عليه من تحولات درامية، وتلك التراكيب المتفاوتة في هيئة متماثلة وأخرى غير متماثلة، مضفياً المزيد من التنويع في الألحان والقفلات، إضافة إلى نبوغه في ميدان الزخرف الذي لولاه لبدت كثير من ألحانه أشبه بكليشيهات فارغة.


على صعيد آخر، يمكن ملاحظة ثالوث العشق والغيرة والانتقام يطغى على أوبراته، وهي سمته التي تجعله امتداداً رومانتيكياً للتراجيديا الكلاسيكية. وربما ذلك ما جعله مفضلاً، نتيجة استشارة فرنسية، عند تكليفه من قبل خديوي مصر إسماعيل لتلحين أوبرا عايدة.
يبدو أن الغيرة ظلت المحرك لإبداع فيردي وشعريته اللحنية؛ غناء أمنيريس في أوبرا عايدة إحدى أكثر لوحاته فتنة لتصوير ربات الانتقام، وسيعالج هذا الدور بصورة أكثر تعمقاً في شخصية ياغو لاحقاً. فإعجاب فيردي بشخصية ياغو المجرم والشيطاني جعلته ينوي إطلاق اسمه على أوبرا "عُطيل"، وهكذا صاغ في طبقة الباريتون إحدى أكثر شخصيات الأوبرا التي كانت الغيرة المحرك الأصيل لشرورها.
لكن الصورة العامة لأوبرات فيردي كانت بمزيج من الفخامة والابتكار والعذوبة، مع بعض الابتذال وربما السوقية، وهي سمات احتاط لها في محاولته لمزج بعض الألحان الشعبية بالرفيعة، مع أنه لم يكن موسيقياً قومياً، إلا أن بعض آثارها ظهرت في معالجته لبعض الألحان ذات الجذور الشعبية.
تتسم ألحان فيردي بالتنقلات اللحنية والمقامية الرشيقة، في طابع تحتدم فيه روح الأبيض المتوسط. فالطابع المأساوي السائد لأعمال فيردي لم يحد من حضور الألحان المشرقة والمشمسة بالمرح، حتى تلك المشرقة بالحب، أو المُعتمة بسبب ألمه، نلاحظ فيها جانباً مشرقاً، بل إن آخر أعماله كانت ذات طابع هزلي، وهي مسرحية شكسبير فالستاف.
يُعتبر قداس فيردي Requiem، ليس فقط واحداً من أجمل أعماله على الإطلاق، إنما أحد أكثر القداسات روعة في الموسيقى الأوروبية؛ إذ تتزاوج فيه أصوات الكورال بالأوركسترا مع السوبرانو والميزو والتينور والباص، بألحان شديدة الفخامة تكسب الإنشاد الديني أسلوباً روحانياً من دون شطط، وبالاستناد إلى الصوت المخفض. كما تشهد الألحان تنقلات مقامية عبر السلمين الماجور والمينور، إذ تبدأ بـ دو ماجور، مع أن سلم المينور تستحوذ مقاماته في بقية المقاطع. في هذا العمل، تتنوع الأساليب التوافقية، إذ يظهر قالب الفوجة مشتقاً للأورغانوم، وبصيغة تتدرج في تعقيدها. الأغنية الأخيرة من الفوجة من مقام مي بيمول ماجور.
تمتاز موسيقى فيردي بالتطلع الدرامي، حتى في تراكيبها الهارمونية، ورغم أن صيغته الهارمونية تميل للأقل تعقيداً، إلا أن التفاوت في البنية المعقدة ذو غاية درامية. أحياناً سنجد هذا التركيب الهارموني بخط لحني وآخر ديناميكي، لإضفاء حركة درامية، أو بتركيب هارموني من مقامين مختلفين لإضفاء توتر ما.
قرر فيردي اعتزال التأليف لحوالي خمسة عشر عاماً بعد تلحينه القداس عام 1874، ربما بعد أن وجد نفسه بلغ ذروة التأليف. إلا أن شكسبير أعاده إلى التأليف مجدداً؛ فكانت أوبرا عُطيل. لكن فيردي، الأقل تعلماً في الموسيقى كما قال، وضع موهبته وصقلها بالخبرة والعمل، وكان نبوغه في الطموح لنشود كمال ممكن. ربما ظل فيردي يعاني من ألم غرسه مدرسو الموسيقى حين وصفوه بالفاشل في دروسهم لضعفه في عزف البيانو، لكنه سيخبرهم، لاحقاً، كيف تُلحن الأوبرا حقاً من دون شروحات.

المساهمون