Skip to main content
جهاز الكفتة المصري و"رحمة ربي" الجزائري
حسان زهار
المصري إبراهيم عبد العاطي والجزائري توفيق زعيبط
من معضلات العالم العربي العويصة اليوم أن العلم والاختراع تحولا، بفعل سطوة الجهل ونقصان الإبداع، وسيطرة الشمولية السياسية على مفاتيح الحكم والقرار، إلى أشبه ما تكون الخزعبلات الخرافية التي تدفع ملايين المواطنين المرضى بمختلف أنواع الأمراض المزمنة التي تعجّ بها أوطاننا المتخلفة إلى التعلق بأي قشّةٍ قد تعيد إليهم الأمل، ولو كانت من قبيل اختراعات "الفنكوش" التي لا طائل منها غير الإلهاء والاستغلال السياسي، وتوجيه الرأي العام عن قضايا أخرى، مرتبطةٍ بالمطالبات الديمقراطية والحريات.
ولعل ما أحدثه الدواء، أو المكمّل الغذائي المسمى "رحمة ربي" في الجزائر، المخصص لمرضى السكري، وهم بأعداد كبيرة (3.5 ملايين مريض من 40 مليون مواطن جزائري)، من ضجة إعلامية، واهتمام شعبي منقطع النظير، بل وإلى تضارب بين الوزارات السيادية للدولة نفسها، يلخص الحالة الكارثية التي وصلت إليها الأمة من التخبط والضياع، وهي الحالة التي لا تشبه، في الجوهر، غير الضجة الخطيرة والتخبط المثير للشفقة والسخرية الذي أحدثه، في فبراير/ شباط 2014، إعلان الهيئة الهندسية للجيش المصري اختراع ما سمي جهاز الكفتة لعلاج مرضى الالتهاب الكبدي الوبائي (سي) (20 مليون مريض من 90 مليون مصري) والإيدز. ضجت الدنيا في مصر والجزائر بالاختراعين أو الاكتشافين، إلى أن تحوّل الأمر إلى قضية سياسية، غطت على قضايا كثيرة أخرى مهمة، مثل إقرار قانون المالية المثير للجدل وارتفاع أسعار المواد الغذائية وانسداد الحياة السياسية في الجزائر، وعلى مخلفات الانقلاب العسكري وتردي الأوضاع المعيشية في مصر.

ويلاحظ بشأن اكتشافاتٍ كهذه دوّخت ملايين المصريين والجزائريين المرضى، الباحثين عن الشفاء ولو بالتعلق بأستار الوهم، أن اللواء إبراهيم عبد العاطي الذي ادّعى أن جهازه سيحوّل الفيروس إلى كفتة يتغذى عليها المريض، وكذلك المدعو توفيق زعيبط الذي وعد مرضى السكري في الجزائر بالتخلص من آثار المرض، تحولا ظاهرتين خارقتين، قبل أن تنتهي هذه الفقاعات نهايةً مأساوية، ليظهر أن صوت البارود الذي كان يطلق، من هنا وهناك، كان مجرّد بارود "فيشينغ"، الأمر الذي أصاب الملايين من المرضى الحالمين بالشفاء، بفعل حملات إعلامية ضخمة ومدروسة، بالإحباط الشديد، مع الإضرار بنفسياتهم والتأثير حتى على قدرتهم المناعية، ووضع مصداقية مؤسسات عليا في الدولة، الرئاسة والجيش في مصر، ووزارة الصحة ووسائل إعلام كثيرة في الجزائر، محل شك كبير.
واللافت أن لا أحد من المصريين يعرف من يكون اللواء عبد العاطي، ولا أين يقيم، بل ذكرت وسائل الإعلام المصرية، فيما بعد، أنه حصل على رتبة لواء مكلف من الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصياً عندما كان الأخير وزيرا للدفاع، وأنه ليس طبيباً بالأساس، وإنما كان عرف قبل سنوات معالج أعشاب، بدليل أنه قدّم برنامجا للتداوي بها في إحدى الفضائيات المصرية، وأن حكما قضائيا بالحبس سنتين صدر ضده سنة 2007، بتهمة مزاولة الطب من دون أن يكون مقيدا في جداول الأطباء، وذلك كله قبل إحالة الأطباء المشاركين في الإعلان عن جهاز الكفتة إلى المحكمة التأديبية.
تورّطت وزارة الصحة الجزائرية، في المشكلة نفسها تقريبا، عندما أجازت دواء "رحمة ربي"، وسمحت ببيعه في الصيدليات، قبل أن تتدخل وزارة التجارة، لتسحب المنتج من الأسواق، بعدما تبين أنه لم يتم اختبار الدواء، أو المكمّل الغذائي، في المختبرات المختصة، وأن مخترعه أو مكتشفه لم يحز بتاتاً على الدكتوراه من جامعة جنيف السويسرية، كما ادعى، ما دفع رئيس المجلس الجهوي لأخلاقيات الطب لمنطقة الشرق، الدكتور رشيد جنان، إلى اعتبار هذا الدواء خطراً كبيراً على صحة الجزائريين، والمرضى تحديدا، وأن صاحبه توفيق زعيبط مارس الغش مع الجزائريين، وعليه الاعتذار. وقال رئيس عمادة الأطباء الجزائريين، الدكتور بقاط بركان، إنه لا يعترف بالمطلق بهذا "الاختراع"، قبل أن تعود وزارة الصحة لتقول إن "رحمة ربي" ليس بديلاً عن الأنسولين للمرضى، وأنه مجرد مكمل غذائي، وليس دواءً أبدا كما تم ترويجه إعلاميا قبل ذلك.
وهنا، تطرح أسئلة غاية في الخطورة، كيف بجهاز طبي يتم إعلانه في مصر بحضور الرئيسين، السابق عدلي منصور والحالي عبد الفتاح السيسي، وبرعاية من مؤسسة الجيش، وكان يؤمل منه تحويل مصر إلى محطةٍ لأنظار العالم في العلوم الطبية، ينتهي إلى مسخرة، وإلى "فضيحة علمية لمصر"؟ وكيف بدواء تجيزه وزارة الصحة الجزائرية، واعتبره وزير الصحة في المرحلة الأولى "ثورة في عالم الطب"، وكان عنواناً بارزاً لفخر الجزائريين باعتباره "الدواء المعجزة"، وتم تسويقه إعلاميا أنه فتح مبين، ليس في الجزائر وحسب، بل إن دول أوروبا وآسيا، وحتى شمال القارة الأميركية، تنتظره بشغف كبير، ليس مكملاً غذائياً بل دواء لمرضى السكري، وأنه الأول من نوعه في العالم، ثم تسحبه وزارة التجارة، ويضطر مجمع "صيدال" للصناعات الصيدلانية الجزائري إلى رفع دعوى قضائية ضد توفيق زعيبط، بسبب تصريحاته الكاذبة، متهما إياه بالإساءة إلى سمعة المجمع العمومي؟
ألا يحتاج الأمر إلى وقفة جدية، لانتقاد العقل العربي الذي تشرّب الخرافة، إلى حد الخلط بينها وبين الإيمان والعلم؟ وها أنصار "جهاز الكفتة" ما زالوا يتحدثون عن مؤامرة كبرى ضد المواهب المحلية، وأن هجرة الأدمغة نتيجة لرفض النجاح في عالمنا العربي. ويستمر الجدل في الجزائر، بعد الإعلان أن جامعة أريس الدولية، بفرعها التركي، تبنت اختراع زعيبط، ومنحت صاحبه دكتوراه فخرية على إنجازه، في ما يشبه رد الاعتبار للحملة الشرسة التي تعرّض لها في الجزائر، ممن يسمون أعداء النجاح المحلي، قبل أن يتبيّن، مما نشرته صحف جزائرية، أن هذه الجامعة غير معترف بها أكاديميا، وأنها سبق أن منحت شهادات وهمية، قبل أن تنشر جامعة أريس في هيوستن في ولاية تكساس الأميركية نفيها منح توفيق زعيبط أي شهادة، وأن الأمر يتعلق بعملية احتيال.

وهنا لا ينبغي التقليل من حجم الفساد السياسي للدول العربية، إلى جانب العقل الخرافي في تفسير مثل هذه الظواهر، فلقد انتبه بعضهم، مثلاً، إلى أن جهاز الكفتة، أو ما يعرف علمياً "Complete Curing Device"، والمعروف اختصاراً "سي س يدي"، كان في الأصل ترويجاً مسبقا لعملية ترشيح السيسي لرئاسة مصر، وهي حالةٌ لا تبتعد كثيراً عن صناعة الأوهام التي اعتادها حكام مصر، خصوصاً في ستينيات القرن الماضي، عندما روّجوا إعلامياً لتطوير أسلحة محلية الصنع، قادرة على قلب التوازن مع إسرائيل، قبل أن يستيقظ المصريون والعرب على هزيمة مذلة في يونيو/ حزيران 1967، في حين أخذت حكاية "رحمة ربي" حيزاً هائلاً من النقاشات العقيمة نحو عام، عبر وسائل إعلام واسعة الانتشار، اعتبرت أنها سياسة ممنهجة لصد تداعيات "الربيع العربي" على البلاد، وإشغال الرأي عن قضايا الفساد وغلاء المعيشة وسياسة التقشف التي اعتمدتها الحكومة، بعد انهيار أسعار النفط، وتمهيداً لما يتم ترويجه حالياً عن ولاية خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، على الرغم من التعديل الدستوري أخيراً.
من شأن سطوة الخرافة والشمولية السياسية على طريقة تفكير وردة فعل العقل العربي أن تنشئ، بكل تأكيد، مثل هذه الظواهر المؤسفة، وليس جهاز الكفتة المصري، أو دواء رحمة ربي الجزائري، أو ظواهر أخرى، مثل ظاهرة المدعو مكّي الترابي في المغرب الذي ادعى شفاء كل داء باللمس على الرأس، أو ظاهرة الراقي الجزائري بلحمر الذي نال شهرة واسعة تجاوزت شهرة أبرع الأطباء، عبر ما قيل عن قدراته الخارقة لتخليص الناس من سطوة الجن .. ليس هذا كله سوى تجليات لهذا الواقع التعيس الذي ليس من أولياته تخليص الناس من سطوة الديكتاتوريات، بدل إلهائهم بحكايات تخليصهم من سطوة الجن والسحر، وتحرير العقل من الخرافة والظواهر الخارقة لصالح العلم والتقانة على أسس دقيقة وصحيحة. وحينها، لن يكون هنالك مجال لكل هذا الهرج الفارغ، لأن الاختراعات والاكتشافات الحقيقية تتم بطريقة بهدوء في أطر محدّدة، كما في الدول المتقدمة، وليست مادةً للإثارة الإعلامية، أو الاستغلال السياسي، أو لزيادة جرعة تخدير الجماهير، المخدرة أصلاً بشتى أنواع "الفاليوم" الفكري والمعيشي والسياسي والعقائدي.