Skip to main content
جنوب السودان تحت الوصاية الدولية
منى عبد الفتاح
جاء توجيه رئيس دولة جنوب السودان، سلفا كير ميارديت، بضرورة التعاون مع طلائع قوات الأمم المتحدة، تهيئةً لتغييرات في كيان الدولة، قد يقود إلى أن تصبح أحدث دولة تحت الوصاية الدولية. بعد فشلها في إقامة دولة منفصلة عن السودان الذي نالت استقلالها عنه في استفتاء شعبي عام 2011، وفقاً لحق تقرير المصير الذي منحته لها اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005. ومنذ ذلك التاريخ، تعاني دولة الجنوب من حرب أهلية اندلعت في ديسمبر/ كانون الأول 2013، بدأت بمعارك بين القوات الحكومية وقوات المعارضة.
لم يفارق دولة الجنوب المنفصلة الغبن الذي كانت تشعر به في زمان الوحدة، ودوماً ما كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تلقي في روع الجنوبيين أنّهم في السودان الموحّد مواطنون من الدرجة الثانية، ويعانون التهميش المتعمّد، كما أنّها لا تزال تشعر بأنّ لها حقوقا تاريخية لدى شمال السودان. وهذا ما حرّك النزعة الانفصالية، عقدة ارتبطت بالتاريخ الحضاري والثقافي والسياسي بين الدولتين.
انطلقت قرارات سلفا كير المتذبذبة، بعد مطالبة المتحدث باسم الجيش الحكومي، العقيد لول رواي لول، الأمم المتحدة بمراجعة قرارها القاضي بنشر أربعة آلاف من قوات الحماية الإقليمية في العاصمة جوبا، نسبة إلى الهدوء الأمني الذي عاد إليها. ولذلك، يرى أن لا حاجة لجنوب السودان بها، ويمكن الاستفادة منها في مناطق الصراعات الأخرى داخل القارة الأفريقية.
وقد جاء هذا الطلب بعد تجدّد الخلاف بين الأمم المتحدة والحكومة، على أثر وصول القوات 
ونشر عناصر القوات الإقليمية، كما هو وارد في قرار مجلس الأمن، إذ قضى بنشر قوات لحماية المدنيين وبعض المؤسسات (مطار العاصمة جوبا مثلا)، ورصد حقوق الإنسان، وتهيئة الظروف المواتية لإيصال المساعدات الإنسانية، ودعم تنفيذ اتفاقية وقف الأعمال العدائية. وتركّز سلطات جنوب السودان على منع الطائرات التابعة للأمم المتحدة من الإقلاع والتحليق في كل أرجاء البلاد، وتعترض خصوصا على وضع مطار جوبا الدولي تحت مسؤولية تلك القوات، باعتباره انتقاصاً لسيادتها.
عندما كان سلفاكير ميارديت نائباً لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، ثم رئيساً للحركة لم يكن أحد يصدّق ما كان يدور في دهاليز التنظيم من ديكتاتورية، لاعتبارات أنّ الحركة تحرّرية في المقام الأول، وتعاني من المظالم عبر عهود طويلة.
أقال سلفاكير قائد جيش دولة جنوب السودان، بول مالونق، لأنّه حسب سلفاكير لم يطع الأوامر، وكان "في مزاج القتال". وفعل الشيء نفسه مع نائبه الأول رياك مشار، بعد أن بلغت حدة الصراع أشدها بينهما، بعد إعلان الأخير الذي ينتمي إلى قبيلة النوير نيته الترشح للرئاسة في انتخابات 2015، كما أقال وزراء حكومته ونوابهم من دون إبداء أسباب، وقام بالتحقيق مع الأمين العام لحزب الحركة الشعبية الحاكم، باقان أموم، بتهمة الدعوة إلى العنف على خلفية انتقاده أداء الحكومة.
يسيطر على جنوب السودان مزاج القتال، منذ قيام حربه في خمسينيات القرن الماضي، مروراً بكل الحكومات الوطنية. لا يفرّق قادته الحاليون ومتمردوه السابقون بين دولة ينتمون إليها 
وأخرى كانوا يُحسبون عليها. هذا المزاج في قول سلفا كير هو السائد، ويحتاج إلى معرفة ما يرسخ في عقول شعبٍ كامل في حالتي السلم والحرب، حكّاما ومحكومين. ما زالت عقدة الانفصال تسيطر على الذهن السياسي الجنوبي. العقدة التي جسّدها فرانسيس دينق في روايته "طائر الشؤم"، وتعود إلى الليلة المشؤومة التى نعقت فيها البومة، منذرةً بكارثة وشيكة. وتعود الأحداث إلى الشهور الأخيرة للاستعمار البريطاني على السودان، حينما انسحب البريطانيون، واستبدلوا بإداريين سودانيين من الشمال، ما أعاد مخاوف الجنوبيين من غزوات العرب القبائل الأفريقية طلباً للرقيق. فنشأت الاضطرابات، ما استدعى تدخل الحاكم العام، وانتقامه من الجنوبيين الذين أشعلوا نار التمرد، وقاد إلى حرب أهلية شاملة بين الشمال والجنوب، غذّت روح العداء العرقي والثقافي والمظالم التاريخية.
أقر وزير العدل في دولة جنوب السودان، فاولينو واناويلا أونانغو، بتورّط الحكومة والمتمردين في ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان في أثناء فترة الحرب التي امتدت نحو أربع سنوات، ما قد يطيل من أمد العقوبات الأميركية التي تم فرضها على قادة في الدولة التي تعاني من المجاعة، واشترت أسلحة في صفقات دولية، حسب تقرير لمنظمة العفو الدولية (أمنستي) عنوانه "من لندن إلى جوبا"، بتعاقدها مع شركتين وقعتا على المعاهدة الخاصة بتجارة الأسلحة، إحداهما عربية.
يقوم سلفا كير الآن بأكثر من لفت الأنظار إلى احتمال وجود تسوية سياسية جديدة، يؤمل منها أن تحقّق استقراراً سياسياً وأمنياً لدولة "مزاج القتال". وإزاء هذا الواقع، حتى لو أدت التسوية إلى تنحّي الرئيس سلفا كير، فإنّه لا رجاء من احتمال سلامٍ دائم في دولةٍ لم تشهده قط، وذلك لظهور حركات جديدة تحمل السلاح ضد الحكومة. ولذلك، لا يخرج المستقبل من التنبؤ بأحد احتمالين: تقسيم دولة جنوب السودان الحالية إلى دويلات عديدة، أو انهيار الدولة الوليدة إلى لا شيء، بعد أن قُتل من قُتل ونزح من نزح.