جناية اليوتيوب على الديمقراطية (2/2)

جناية اليوتيوب على الديمقراطية (2/2)

05 فبراير 2020
+ الخط -
التقى تقرير صحيفة (نيويورك تايمز) بضحية أخرى من ضحايا فيديوهات اليوتيوب في البرازيل، المدرسة فلاريا بورجيس، التي عملت كمدرسة تاريخ في المرحلة الثانوية لأكثر من 31 سنة، حققت خلالها مشواراً مهنياً كانت تتشرف به، لكن ذلك التاريخ تعرض للسحق بسبب نظريات المؤامرة المنتشرة على اليوتيوب، بدأ ذلك بعد أن كانت تحدث الطلاب في إحدى حصص التاريخ عن صعود النازية واستهداف النازيين في ألمانيا لليهود والغجر والمثليين جنسياً، فقال طالب من المثليين جنسياً معلقاً على كلامها إن هذا يشبه ما يقوم به بولسانارو في البرازيل، حين يتحدث هو وأتباعه بشكل عدائي عن المثليين جنسياً، فقالت له إن ذلك لا يشبه ما كان يفعله النازيون في جزء، لكنه يشبه أفعالهم في جزء آخر، وبدأت تشرح فكرتها بتفصيل أكثر، ولم تكن تتخيل أن أحد الطلاب المعجبين ببولسانارو سيقوم بتسجيل كلامها على موبايله، وأنه سيقوم باقتطاع جزء من كلامها، ليقوم بنشره على الفيس بوك، قالت فيه إن من يتبع بولسانارو لديه خوف مرضي من المثليين جنسياً، وهاجمت دعوته لحمل السلاح، ودعوته لبقاء النساء في البيوت لأنهن ضعيفات، ووصفت غالبية مؤيدي بولسانرو بأنهم ليسوا مخدوعين، بل هم كارهون للنساء وللمثليين جنسياً ومؤيدون للعنف.

وقع ذلك المقطع في يد أحد نجوم اليوتيوب الذين استغلوا شهرتهم على الإنترنت في الوصول إلى مناصب عامة أعلى، رجل اسمه كارلوس جوردوي كان يتولى مسئولية في أحد المجالس المحلية في مدينة ريو دي جانيرو، وكان في وقت قبل ذلك يعمل في منصب استشاري في إدارة المدينة، وكان قد بدأ تأثره قبل سنوات ببولسانارو الذي يعتبره بطله الشخصي، فبدأ يقلده في عمل فيديوهات على اليوتيوب، وحين وقع المقطع المسجل لمدرسة التاريخ في يديه، قام ببثه على قناته، واستغله لتأكيد ما سبق أن قاله عن وجود مؤامرة يقومها مدرسون شيوعيون ومثليون جنسياً، يقومون بغسيل مخ طلبة البرازيل لتحويلهم إلى مثليين جنسياً، وهي فكرة كان قد تبناها بولسانارو في فيديو له نشره على اليوتيوب في عام 2012، لكنه لم يلق انتشاراً وتم التعامل معه بوصفه مجرد فيديو انفعالي يقدم فكرة بلهاء، لكن كارلوس جوردوي اعتبر مقطع المدرسة دليلاً على صحة كلام بولسانارو الذي كان بعيد النظر حين أدرك طبيعة المؤامرة مبكراً، وطلب من الطلبة أن يقوموا بتصوير مدرسيهم الذين يسعون لتحويلهم إلى مثليين جنسياً، مؤكداً أن هناك أعضاء ميليشيات يسارية دخلوا التعليم كمدرسين ليقوموا بعملية اغتصاب إيديولوجي ضد الطلبة في سن مبكرة ليقوموا بتشكيل قناعاتهم، وهي فكرة أصبحت بعد خمسة سنوات من انطلاقها لأول مرة، تحظى بملايين المؤيدين والمشاهدين والمشاركين.


بدأ تدفق الفيديوهات التي قام الطلبة بتصويرها لمدرسيهم، بعد أن وجدوا في الفكرة متنفساً لروح التمرد على أساتذتهم، ونشرت فيديوهات جوردوي الرعب لدى الأهالي الخائفين على أبنائهم من "الاغتصاب الإيديولوجي والتحويل الجنسي الذهني"، لكنها أوصلت جوردوي إلى منصب أعلى، حيث حصل على أعلى نسبة أصوات في الانتخابات في تاريخ منطقة نيتيروي، أما مدرسة التاريخ المسكينة فقد تم تدمير سمعتها، وتعرضت بعد نشر الفيديوهات لحملة تحريض وهجوم غير عادية على الإنترنت، وتلقت تهديدات بالقتل، وأصبح مدرسون كثيرون من زملائها خائفين على حياتهم، لو قرروا أن يتضامنوا معها، أو يتحدوا حملات الإرهاب الموجهة ضدهم، والتي يشترك فيها الكثير من طلابهم، لكن جوردوي الذي يعترف بأنه قام بعمل الفيديوهات التي تهاجم المدرسة لكي يجعلها تخاف مما قالته، علق على ذلك بقوله إن مسألة التهديدات بالقتل التي تلقتها المدرسة فيها مبالغة، وأنه لا أحد في الإنترنت يهدد بجدية، بدليل أنها لا زالت حية، مضيفاً بكل تبجح أنه ليس نادماً على نشر المقطع المسجل المُجتزأ من كلامها، ولا على حملات الهجوم التي قام بها ضدها وضد أمثالها.

لكي يرد صناع التقرير على تهوين جوردوي وأمثاله من جدية التهديدات بالقتل التي يتلقاها أمثال مدرسة التاريخ، التقوا بديبرا دينيز وهي ناشطة برازيلية تدافع عن حق الإجهاض، لكنها أصبحت مؤخراً تعيش متخفية في الولايات المتحدة، بعد أن اضطرت لمغادرة البرازيل لأنها تلقت سلسلة تهديدات بقتلها واغتصابها وقتل زوجها، بل وتم إرسال فيديوهات لها تشرح كيف سيقتلونها خطوة بخطوة، وما الذي سيفعلونه بها فور أن يظفروا بها، وحين تم إلقاء القبض على أحد صناع تلك الفيديوهات وسألته الشرطة عن سر تهديده لها بذلك الشكل، اتضح أنه بدأ معرفته بها من خلال مشاهدة فيديوهات كراهية ضدها على اليوتيوب، وأن تلك الفيديوهات شحنته ضدها، وخلقت دائرة من الغضب تجاهها، اكتفى البعض بالمشاركة في إشعالها وانتشارها، لكنها وجدت أيضاً متحمسين لتطوير ذلك الغضب إلى حالة أكثر فعالية تفتك بها وبأمثالها، وتريح البرازيل من شرهم على الأسرة والأخلاق والمجتمع.

ينقل تقرير (نيويورك تايمز) دفاع مسئولي موقع يوتيوب عن أنفسهم، وتنصلهم من مسئولية نشر الكراهية على الإنترنت، حيث يؤكدون دائماً أنهم مجرد عارضين للمحتوى ولا يتدخلون فيه، وأنهم مثل المكتبات التي ستجد فيها دائماً محتوى مثير للجدل، لكن لا أحد يطالب بإغلاق المكتبة بسببه، مؤكدين أن كل الجدل المثار حول الموقع، يتعلق بنسبة واحد في المائة فقط من محتواه، وأن الموقع لو قام بحذفه، سيأتي من يطلب حذف محتوى آخر، لكن مسئولي الموقع الذين رفضوا المشاركة في التقرير أو التعليق على محتواه، وعدوا باتخاذ خطوات فيما يخص الفيديوهات التي تهاجم الأمصال واللقاحات التي تستهدف فيروس زيكا، لكنهم لم يعلقوا على ما ذكره التقرير عن تأثير جحر الأرنب والخوارزميات التي تدعمه وتجعل من السهل نشر الكراهية وتشويه الحقائق.

لإلقاء المزيد من الضوء على خطورة هذه النقطة، زار التقرير مركز بيركمان كلاين لدراسات الإنترنت والمجتمع في جامعة هارفارد، والذي درس باحثوه مسألة تأثير جحر الأرنب على مشاهدي اليوتيوب في البرازيل، حيث وجدوا أن أغلب الفيديوهات التي رشحها اليوتيوب لمشاهديه في البرازيل تم إنتاجها من قبل صناع ينتمون إلى اليمين المتطرف الذي كانت فيديوهاته أكثر في الوصول للمشاهدين، لأن قنوات نجومه يتم ترشيحها للمشاهدة بشكل أكبر من قنوات المنتمين إلى اليسار والوسط، بسبب وجود محتوى مثير للغرائز في الفيديوهات التي ينتجها نجوم اليمين المتطرف، وهو ما يجعل نسبة الاشتباك والتواصل معها أعلى، فيزيد انتشارها بسبب شبكة تشكل ما يشبه خريطة مترو الأنفاق، يعمل من خلالها مجتمع اليوتيوب.

لكن دراسة خوارزميات اليوتيوب في البرازيل أوصلت باحثي المركز بالصدفة إلى نتيجة كارثية لا علاقة لها بالسياسة هذه المرة، حيث اكتشفوا أن هناك من 40 إلى 50 قناة في البرازيل تقوم بممارسات تشجع على انتهاك الأطفال بشكل جنسي أو تمارس ذلك الانتهاك أو ما يقاربه، وأن اليوتيوب نجح في تشكيل مجتمع لهذه القنوات بشكل شرعي، دون أن يعرف مسئولو الموقع بذلك، لأن هذه القنوات تتخفى تحت مسميات تعليم الجنس، وتصف نفسها بأنها قنوات إرشادية، وحين يتعرض المشاهد لها، تقوم تقنية ترشيحات المشاهدة التالية المستخدمة في اليوتيوب بإرشاد المشاهد إلى قنوات جنسية أكثر وضوحاً، كما كشفت الدراسة عن قيام منتهكي الأطفال بشكل جنسي باستغلال القنوات التي يتم عليها نشر صور وفيديوهات الأطفال وهم عراة، والتي يرسل إليها الكثير من الآباء والأمهات صور أطفالهم بحسن نية، متخيلين أن ذلك لن يؤثر على أطفالهم بشكل ما، لأنهم مشاهير، دون أن يعرفوا أن تقنيات اليوتيوب ستجعل من القنوات التي ينشرون فيها تلك الصور والفيديوهات هدفاً واضحاً للذئاب والمتصيدين جنسياً، وأن ذلك يتطلب تدخلاً عاجلاً من مسئولي اليوتيوب لحل هذه المشكلة، بتغيير تقنيات عمله التي تهدف إلى زيادة مدة التصاق المتصفح به، أياً كان الثمن، لكن التقرير يتساءل في الختام عما إذا كان يمكن بالفعل حل مشكلة خطيرة مثل هذه، قبل أن يعترف مسئولو الموقع بوجودها، ويتحملوا مسئوليتهم تجاهها.

لكن، هل يمكن إنكار فضل اليوتيوب على الملايين من مشاهديه الذين يدخلون إليه كل يوم بحثاً عن المعرفة والمتعة والبهجة؟ بالطبع لا، هل يمكن تصور الحياة بدونه؟ لا أعتقد، خاصة في بلادنا التي يحتضر فيها الإعلام الحكومي والخاص، ويزداد تدهوراً وضحالة، ولا يجد المواطن الذي لا يستطيع الاشتراك في خدمات البث عبر الإنترنت ملاذاً سهلاً ومجانياً سوى اليوتيوب، لكن هل يعني ذلك الإقرار بأهمية اليوتيوب أن نسلم بسياسات القائمين عليه وألا نقوم بنقدها وتسليط الضوء على خطورتها؟ بالطبع لا، وإذا كان من حسن الفِطَن أن نتخلى عن حسن الظن في القائمين على اليوتيوب، وندرك أنهم لن يبادروا إلى تغيير سياستهم التي تجلب لهم أرباحاً مليارية كل سنة، فأقل ما يجب علينا فعله أن نسارع للإبلاغ عن أي محتوى متطرف أو عنصري أو مثير للشبهات نجده عليه كلما استطعنا ذلك، وذلك أضعف الإيمان.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.