جنازات لبنان من دون توليف: أيّ انكسارٍ هذا؟ أيّ تمزّقٍ وشقاء؟

جنازات لبنان من دون توليف: أيّ انكسارٍ هذا؟ أيّ تمزّقٍ وشقاء؟

26 اغسطس 2020
جنازات لبنانية: تمزّق ووجع وخيبة وشقاء (محمود زيّات/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

الجنازات كثيرة. الغليان عاصفٌ. التوتر قاسٍ. الارتباك فاعل. بيروت تتخبّط بآلامٍ وتشوّهات. مدنٌ لبنانية تودّع أناساً، بينهم مراهقون وشبانٌ. الجنازات متتالية. الجريمة تصنع كوابيس، والناجون من موتٍ يُشعلون أضواءً في نهارات معتمة، كي ينتزعوا من القلق والوجع والغضب بعض راحة مُغيَّبة. التوابيت ترتفع إلى الأعلى، والرقص يُتيح لغائبين في الموت بعض سكونٍ، قبل بلوغ الجانب الآخر للحياة، أو للموت نفسه. الدموع تنهمر، لكنّ مياه العيون تعجز عن إطفاء النار المشتعلة في ذاتٍ وروحٍ وجسدٍ.

أيّ انكسار هذا؟ أيّ تمزّق وأيّ وجع وأيّ خيبة وأيّ شقاء؟

 

 

لا شيء يُريح نَفْساً توّاقة إلى خلاصٍ مُعطَّل. لا شيء يفتح ثقباً في جدار لن يدقّ عليه أحدٌ، ولن يُدرك أحدٌ سبباً لعدم الدقّ عليه أصلاً. ألن تكفي الجثثُ المحترقة والجثثُ المفقودة والجثثُ الملعونة؟ ألن تحرّض الأنقاضُ على فعلٍ مطلوبٍ لكنّه معطوب؟ ألن تحثّ عنجهيةُ طغمةٍ حاكمةٍ على ارتكابِ انقلابٍ، فالمعصية الأخطر كامنةٌ في عدم الارتكاب؛ وعلى صُنع عصيانٍ، فعدم الصُنع خطيئة أصليّة؟ أيّ بلاغة يُظَنّ أنّها منبثقة من الصمت؟ من هذا الصمت تحديداً؟ أيّ توليفٍ يُقطِّع المسار، بدلاً من أنْ يجعله خطاً يستقيم برفضٍ وصراخٍ يحطّمان الخراب، ويُنيران شارعاً وعقلاً وانفعالاً؟

لا شيء يُريح ولا شيء يفتح ولا شيء يصنع. هذا سرابٌ في صحراء المعجزة المقتولة. هذا حلمٌ منفلشٌ على منافذ مغلقة على انبعاثٍ جديد. الروائح غدّارة، توهم بوجود مَنْفذٍ إلى حريةٍ وأملٍ وعيش، فإذا المَنْفذ مجرّد أغلالٍ وخيباتٍ وموتٍ. النسيم مؤذٍ، يُقنِع مُعذَّباً بأنّ قادماً من بعيدٍ سيُنقذه من ضلاله، لكنّ القادم يحتاج إلى ضلالٍ كهذا كي يمرّ على جثمانِ مُعذّبٍ، يرتضي عذابه مُنتظراً خلاصه على يديّ قادمٍ غريبٍ أو إلهٍ صغير، بدلاً من تحرّك يصنع خلاصاً على الأرض. والقادم لن يكون راعي بقر، كما في الصُور الذهبيّة لذاكرة أو مخيّلة، يأتي من لا مكان، ويُنقذ أياً يكن، ويغادر بهدوء، بعد أنْ يزرع الرمال دماءً وبطون الأرض جثثاً وسماء الغبار جنوناً وهوساً ببطولات، ويمنح الأرملة فِلْسَها المفقود، وينظر بعينين غريبتين إلى امرأةٍ مُشتهاة لكنها ملعونة، ويودِّع عجوزاً يقول له، من دون كلامٍ، إنّ العالم مسحورٌ بالخراب ومنذورٌ للموت، فلا جدوى من عبورٍ يُفبرك خلاصاً مؤقّتاً.

الجنازات اللبنانية تؤرِّخ راهناً يقول إنّ البرابرة مُقيمون بيننا ومعنا دائماً، وإنّ النبلاء يشنقهم الحنين إلى غبار أزمنة تائهة في مجاهل الكون، وإنّ شياطين هذا الشرق ترقص مع قدّيسيه في "عرس الدم"، وإنّ زجاجاً ـ يتحطّم على رؤوس وأفئدة وانفعالات ـ لن يُنقذ حبّاً من غباء صمته، ولن يقول وداعاً فآفاق المغادرة مغلقة، والفرار مبتور، والنجاة مسكونة بالحصار والتفتّت. الجنازات اللبنانية تروي حكاياتٍ قديمة عن أناسٍ يودّعون أناساً، ورصاصٍ يُعلن استقالة العقل من وجدانه، وتوابيت تختصر بلداً وعيشاً وتاريخاً. الجنازات اللبنانية، المتجوّلة في مدنٍ وبلداتٍ، تؤكّد أنْ لا شيء يتغيّر في بلد الأحزان الرتيبة، وأنْ لا شيء يتبدّل في حروبه الصغيرة، وأنْ لا شيء يروي عطش الانهيار، وأنْ لا شيء يُشبِع نهم القبيلة للدم والموت والدمار.

هذا ليس تشاؤماً. هذا واقعٌ، والواقع مُفرِطٌ بعدميّته وجنونه وفتكه وتهافته. البلد مأزومٌ إلى حدّ الموت، والموت مُدركٌ أن الدولة فانيةٌ منذ مئة عام (دولة لبنان الكبير)، وأنّ البلد منتهٍ منذ 77 عاماً (الاستقلال اللبناني)، وأنّ الخراب متجذّرٌ منذ 51 عاماً (اتفاق القاهرة)، وأنّ البهتان أساسيّ منذ 45 عاماً (اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية)، وأنّ الجريمة فاعلةٌ منذ... 22 يوماً (انفجار مرفأ بيروت). هذه لن تكون أرقاماً فقط. هذه حيوات ومنعطفات وقهر ونهايات. هذه سِيَر مكان وأفراد وعلاقات. الناس مكسورون إلى حدّ الفجيعة، والفجيعة تُمنَعُ من دفعهم إلى خروجٍ على الموت، والمنع متأتٍ غالباً من المكسورين أنفسهم، لخوفٍ فيهم أصيل، والخوف متنوّع، وأسبابه كثيرة. الشوارع مقفلة على نبضٍ، وإنْ يكن بعض النبض حياةً فهذا ممنوع، لأنّ سلطة الموت معرّضة للاندثار إنْ يقوى النبض. الجنازات محجوبة، لأنّ وباء يفتك بالعالم، وصانعو الحجب يظنّون أنّ اختباءً بالوباء قادرٌ على تحصينهم من غضب الأهالي. لكنّ المأزق أنّ الأهالي حين يغضبون يصمتون، وحين يحزنون يشتمون ويصمتون، وحين يشتمون ويصمتون، يتوارون في حزنٍ وعزلةٍ وخوفٍ، ويكتفون بشتيمةٍ يرونها نشيداً لثورةٍ مُحطّمة، وهم لا يدرون أنّها محطّمة، وهذه فجيعة كبرى؛ أو تغريدةً مُشوَّهة لانتفاضة مُغْتالة، وهم لا يُدركون أنّها مُغتالة، وهنا الطامة الكبرى.

ثم يسألون: أين السينما من هذا كلّه؟ هم غير مُنتبهين إلى استقالة السينما من لغة الصورة، لشدّة براعة الصورة الأصليّة من احتلال المكان والذاكرة والراهن والمتخيَّل؛ وإلى توقّف الكاميرا عن ولوج عوالم تتفوّق على كلّ خيال، وإلى انعدام التوليف فعباقرة الجحيم عاجزون عن ابتكار جمالٍ من عنف الآنيّ. هذا خرابٌ عظيم، لن تكفي المقيمين فيه سفينة، ولن تُنقذهم إضاءة، ولن تمنحهم براءتهم المشوّهة إذناً بالمغادرة بل بالرحيل فقط.

 

 

يسألون عن السينما، وهم غير مُنتبهين إلى أنّ كبارها مغادرون منذ أزمنة، وأنّ باقين فيها يلجأون إلى هزيمة الراهن، لعلّ الراهن ينتفض على هزيمته وهزيمتهم فيخرجون إلى العلن، وأنّ آخرين فيها يُهيّئون أنفسهم لنبش صُور وحكايات يُصوّرون معالمها وتفاصيلها بعيونٍ مفتوحة على أجمل المتبقي من حياةٍ، إنّ يكن هناك مُتبقٍّ، وإنْ تكن هناك حياة.

إذاً، فلنستمع إلى صمتِ المدينة وناسها مُجدّداً، ولنَقُلْ معاً: "كلاكيت... آخر مرة".

المساهمون