جمالية القبح!

جمالية القبح!

06 يناير 2020
+ الخط -
لم أجد غير العبارة التي أوردها الكاتب الكندي المثير للجدل ألان دونو لتوصيف واقعنا اليومي في زمن التكنولوجيا الغارق في التفاهة "إن التافهين قد حسموا المعركة وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمون عالمنا"، حيث دست التفاهة في الإعلام والسياسية والفن.. إلخ، وبات "العقلاء" يغردون خارج السرب ويسبحون عكس الموجة.

إن التفاهة صارت عملة رائجة تدر على أصحابها المال والشهرة، يتسابق الجميع إلى ارتكابها، ولو على حساب الذوق العام والقيم المجتمعية المتعارف عليها، كيف لا وجمهور عريض يتابع قنوات وصفحات ومواقع لا ينتج أصحابها إلا البذاءة والسفالة.

إن إعلامنا الذي يموله المغاربة من جيوبهم المثقوبة، يقدم لهم وجبات غارقة في المسخ والانحطاط، أغاني هابطة وسوقية وأجساداً عارية وإنتاجات هابطة في سعي حثيث للتطبيع والتأسيس لقيم جديدة تتنافى مع الجمال.

صحافيون "بوجههم الأحمر" يتجولون بميكروفوناتهم وعدساتهم، للتنقيب عن الأتفه والأكثر تفاهة، خلافا للقيم الإعلامية الهادفة. ينخرط في هذا "الهيت"، دون أن ننسى الحديث عن صحف ورقية تشتكي هجران القارئ لها، التي لا تتوانى عن النبش والنهش في أعراض الناس وشرفهم، والأنكى من ذلك أنها تستهدف أشخاصا بعينهم للنيل من سمعتهم دون احترام للخصوصيات من أجل "إعادة تربيتهم" وإخراسهم.

لا غرابة أن يتحول مغن برأسمال كلمات سوقية وبذيئة إلى مناضل شريف يرفعُ فوقَ الأكتاف، في طمسَ غير معلن لأبجديات النضال والدفاع عن القيم، غير ملزم على الفنان أن يتحول إلى فقيه أو خطيب، على الأقل أن يبتعد عن خط التماس بينه وبين السفالة، وذلكَ أضعف الإيمان.. لكن أن يتحول الحشاشون إلى فنانون يفرش لهم السجاد الأحمر، فتلك قمة العبث.

من الدروس التافهة في السياسة أن يعتلي التافهون والتافهات المنصة، دون أن يمتلكوا أدوات الخطابة والحجاج، فهيمن على خطابهم اللمز والغمز والسب والوعيد.. دون الحديث عن البرامج وهموم المواطن الذي حصّل في هذه البقعة "حصلة خايبة".

لا يختلف ما قلناه أعلاه عما يروج في موقع يوتيوب، والفرق أن التفاهة تكون تستمد مشروعيتها من مؤسسات تريد أن تجرنا إلى القاعِ جميعا، حيث العري الفاضح، يتخلص هناك الإنسان من وقاره وحيائه وحشمته؛ نساء من مختلف الأعمار، متزوجات وعوانس وأمهات.. يقدمهن أنفسهن للجمهور كما ولدتهن أمهاتهن، مع التركيز على "روتينهن".

تحمل هذه العاصفة التي تجتاح موقع "يوتيوب" رسائل سيئة تحط من قيمة وكرامة المرأة التي تحولت إلى بضاعة معروضة في العالم افتراضي.

يقول عمر بن الخطاب "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"، لقد وجد التافهون والتافهات جمهورا عريضا يتابعهم ويشجعهم على الاستزادة في الحماقة، فيديوهات تافهة وصفحات غارقة في السفالة يتابعها الآلاف، بينما ينشّ الكتاب والمبدعون وصناع الفكر.. الذباب، قلة قليلة من يهتم لأمرهم، طبيعي جدا أن يتكاثر المسخ في مجتمع يسجل نسبا متدنية في القراءة.

في عصر التقنية، أصبح الناس مغرمين بالقبح رغم شجبهم له في الواقع. إن التربية الأخلاقية هي الحل لإعادتنا إلى السكة الصحيحة. ثمة جريمة ترتكب في حق الأجيال والناشئة والتي ستؤدي إلى تكوين قاعدة واسعة منحازة إلى التخريب وتكنّ العداء للجمال، وقد بدأ المجتمع يجني نتائج هذا التجهيل من خلال تخريب حافلات النقل العمومي والعبث بمنشآت الدولة من حدائق وأسوار.

إن من سخرية القدر أن الإنسان بدأ حياته عاريا في الكهوف والغابات، غير أن دورة الحياة انتهت به عاريا في العالم الافتراضي.

3B013BFE-CC0A-41A9-94BE-D9F8B505D40C
إسماعيل العماري

كاتب مهتم بقضايا التربية والتكوين.يقول: ولد الإنسان ليكتب ويعبر بحرية.