جماعاتنا الدينية والأحزاب المسيحية
يؤكد بعض الإسلاميين، وبعض من يبررون تركيبة الحركات السياسية الطائفية وممارساتها، في الوطن العربي، أن وجود الحركات والجماعات الدينية الطائفية في العمل السياسي، يشابه وجود الأحزاب المسيحية في أوروبا، وأن الاعتراض على تركيبة هذه الجماعات والحركات، وعلاقتها بالديمقراطية وهوية الدولة، لا يلحظ مشاركة أحزابٍ مسيحية ضمن الأنظمة الديمقراطية الغربية. وعليه، فإنه لا يوجد إشكال بين تركيبة هذه الحركات الدينية والطائفية العربية، وقدرتها على الانخراط في العمل الديمقراطي. يوجب هذا الحديث المقارنة بين النموذجين، عبر فحص تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية.
نشأت الفلسفة الديمقراطية المسيحية في نهاية القرن التاسع عشر، لكن الأحزاب المسيحية الديمقراطية انطلقت، عملياً، بعد الحرب العالمية الثانية (هناك أحزاب تتبنى الديمقراطية المسيحية، مثل حزب الوسط الألماني والحزب الشعبي الإيطالي، ظهرت قبل ذلك)، ويشير معظم الباحثين إلى أن انطلاقة الفكر الديمقراطي المسيحي جاءت بعد المنشور البابوي الذي أصدره البابا ليو الثالث عشر عام 1891، نتيجةً لتردي أحوال العمال في ذلك الوقت، وقد شدد المنشور على أهمية إيجاد حل لأوضاع العمال السيئة، وحقهم في إنشاء اتحاداتٍ، تطالب بحقوقهم بشكل سلمي، والتحذير من الشيوعية والاشتراكية، ودعوة العمال إلى رفضها، والتأكيد على حق الملكية الخاصة، ورفض الصراع الطبقي، والدعوة إلى تصالح الطبقتين، العمالية والرأسمالية.
ترتكز الفلسفة الديمقراطية المسيحية على المحافظة على الأخلاق والقيم المسيحية، والأخذ ببعض الأسس في النظرية الليبرالية، وبعض الأسس الاشتراكية، وتُصَنَّف الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا ضمن أحزاب يمين الوسط، عكس نظيرتها في أميركا اللاتينية التي تُصنّف ضمن يسار الوسط، كما أن الأحزاب المسيحية في أوروبا تختلف عن الأحزاب المحافظة اليمينية الأنجلو-سكسونية، حيث تستمد الأولى محافظتها في السياسات الاجتماعية، المتعلقة بالزواج والإجهاض، وغيرها من المبادئ الدينية المسيحية، في حين لا تستمد الثانية محافظتها من تلك المبادئ بالضرورة.
وبجانب المحافظة في القضايا الاجتماعية، تؤكد المسيحية الديمقراطية على الملكية الخاصة، وتتبنى حقوق الإنسان وفق الفهم الليبرالي، ولا تعارض إدارة الاقتصاد، وفقاً لآليات السوق الحر والتنافسية، لكنها لا تعارض تدخل الدولة المحدود في توجيه الاقتصاد، كما أنها تؤكد حقوق الفرد الأساسية، من دون أن تغفل واجب الفرد تجاه المجتمع ككل، وتعتبر العائلة نواة المجتمع، وتوليها اهتماماً خاصاً في سياساتها الاجتماعية. كذلك، يتفق الفكر الديمقراطي المسيحي مع الاشتراكية، في قضايا العدالة الاجتماعية، ودور الدولة في محاربة الفقر.
برزت الأحزاب المسيحية الديمقراطية بعد هزيمة الفاشية والنازية، وصعدت في مواجهة الأحزاب الشيوعية في أوروبا، وتلقت دعماً أميركياً ضخماً في هذه المواجهة، لكن هذه الأحزاب لم تتكون بوصفها أحزاباً تحمل أيديولوجيا كاثوليكية دينية، وترغب بإقامة نظام ديني، وإنما عبرت عن رؤيةٍ محافظةٍ، ضمن الأنظمة الديمقراطية، وتحت سقف الهوية القومية لدُوَلِهَا، ولم تنشأ لتمثيل جماعاتٍ مذهبية داخل الدولة، بل فتحت أبوابها لجميع المواطنين، فالاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا لم يقصر عضويته عند تأسيسه على الكاثوليك فقط، على الرغم من أنهم كانوا الأغلبية في ألمانيا الغربية، إذ ضم البروتستانت، والرجال والنساء (واليوم ترأس الحزب امرأة بروتستانتية، هي أنجيلا ميركل)، فهو حزب مفتوح للمواطنين الألمان، وهو يضم مواطنين غير مسيحيين، مثل المسلمين من أصول تركية، ويرشحهم على قوائمه الانتخابية، كما أن برنامج عمله السياسي يخاطب كل المواطنين، وأعضاء الحزب يقولون، صراحةً، في إعلانهم الصادر عام 2007، إنهم يعلمون "أنه لا يمكن أن يستمدوا برنامجاً سياسياً محدداً من الإيمان المسيحي".
صحيح أن هذه الأحزاب تسعى إلى تعزيز الأخلاق المسيحية في الحياة العامة، لكن هذا لم يمنع من قبولها بتشريعاتٍ، تناقض قيمها المسيحية، تأكيداً على احترامها للديمقراطية وسيادة القانون، ففي إيطاليا، قام البرلمان بتشريع الحق في الطلاق عام 1970، في ظل مشاركة الحزب الديمقراطي المسيحي في الحكومة الائتلافية وقتها، وأصدر البرلمان، أيضاً، تشريعاً يسمح بالإجهاض عام 1978، مع هيمنة الحزب على الحكومة. كذلك، فإن الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا يعلنون، في مبادئ حزبهم، احترامهم الذين يفضلون طرقاً أخرى للحياة الزوجية، تخالف المفهوم المسيحي للزواج.
ويشير عمل هذه الأحزاب إلى إشكالية الدعوة إلى رفض الأحزاب الدينية بالمطلق، التي يرددها علمانيون عرب، لكن المقارنة بين تلك الأحزاب المسيحية والأحزاب والجماعات الدينية الفاعلة في العالم العربي تشير إلى حجم التباين، وقد تتشابه الأحزاب المسيحية مع حركة النهضة التونسية، لكن جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي لا تفصل بين الدعوة والسياسي، وتصر على تعبئة الجمهور في المحطات المفصلية على أساس هويّاتي، بعيداً عن أي برنامج عمل، وترفع شعارات "الشريعة والشرعية" للانخراط في صراع هوية مع القوى العلمانية، لا يمكنها ادعاء التشابه. كذلك، حزب الدعوة وأشباهه من الأحزاب الشيعية العراقية، القائمة على تمثيل جماعة مذهبية، ومناقضة أي هوية جامعة، وتعزيز صراع الهوية، لا تستطيع ادعاء التشابه، أيضاً.
التحول من جماعات مهووسة بالهويات المذهبية والدينية، لأحزاب سياسية محافظة، تخاطب كل المواطنين، تحت سقف هوية وطنية جامعة، ونظام ديمقراطي، وحده الذي يمنح المعنى لمقارنة الأحزاب الإسلامية العربية بالأحزاب المسيحية الأوروبية.