جزائري نائم عن الواجب الكروي

جزائري نائم عن الواجب الكروي

26 يونيو 2014
تجهيز فنّي لـ مصطفى بن فوضيل/ الجزائر
+ الخط -

إلى أية فئة كنت أنتمي، حين أسلمْتُ نفسي إلى نوم عميق، دقيقتين قبل أن تبدأ مباراة الجزائر/ كوريا الجنوبية في المونديال: فئة الأحياء أم الأموات؟ لم تهمّني الإجابة لحظتها، بقدر ما همّني انسجامي مع يأسي من الفريق، ورغبتي في الحفاظ على أعصابي التي أحتاجها هذه الأيام، في إكمال روايتي الجديدة "توابل الثعلب".

من يريد أن يقارب مقاماً جزائرياً بات مخيفاً: عدم انتظار شيء من أي شيء، نظراً إلى تراكم الخيبات؟ هل قلت إنني نمتُ أم هربت؟ ياه.. للنومات الاستثنائية طعم النبيذ الذي نشربه في حضرة أحبابنا الموتى في الخيال. وفي نومتي تلك شفتُ صديقي جمال. كان عاشقاً، وأقصى حلمه أن يتزوّج سلمى، هي وعدته بذلك بمجرد أن يعود من الخدمة العسكرية، لكنه عاد في صندوق ملفوفاً بالعلم الوطني، بعد أن انفجرت في وجهه قنبلة خدّاعة.

لم أكن أعلم أنها الدقيقة السادسة والعشرون من "المباراة"، حين أصحاني انفجار العمارة. صراخ جماعي لم أتبيّن طبيعته، لقد نسيت أن هناك شعباً كاملاً يتابع مباراة مصيرية لفريقه الوطني في أهمّ تظاهرة كروية في العالم. اخترقتني صورة صديقي جمال ملفوفاً بالعلم الوطني، لذلك صدمتُ وأنا أطلّ من النافذة، فأرى الأعلام الوطنية مزروعة في كل مكان.

لقد فعلوها قلت لنفسي، وهمّت يدي أن تمتدّ إلى التلفاز، لكنني كبحتها كمن اكتشف فجأة أن الحبل أفعى، وعدت إلى سريري: لن أصدّقهم.. فأخيب مرة أخرى، مثلما حصل في مباراة بلجيكا، ألم يبادروا يومها بالتسجيل؟ وتنفجر العمارة من جديد في الدقيقة الثامنة والعشرين.. صدّق يا بوكبة صدّق.. لكنني لا أستطيع.. كنت خائفاً على أعصابي، فصرت خائفاً على قلبي. كيف استطعتُ أن أسمع طرقاً على الباب، في ظل الصراخ الذي كان يغرق المدينة كلها؟ هل أفتح؟ إنه جاري السلفي أبو جمال. عانقني بمجرد أن ظهرت له، وعاد إلى بيته من غير أن يقول كلمة واحدة من الفرح. من أولانا بمقاطعة التلفزيون؟

فلاش باك أول: كانت محطة القطار في الجزائر العاصمة عصراً، تكاد تختنق من الاكتظاظ، وكانت النقاشات بين الناس تصبّ كلها في نهر اليأس من عناصر المدرب البوسني، حتى أن الأعين كانت ترمي من يبدي التفاؤلَ بالشرر، وسمعتُ أحدهم يقول: ما الذي يربطنا بهذا الفريق؟ لاعبوه يحملون جنسياتٍ غربية، ولسانهم فرنسي، ومدربهم أجنبي، لا شيء.. لا شيء.. غير تلك السجدة التي سجدوها، والأولى أن أشجّع الفريق الإيراني.

انفجرت المدينة من جديد في الدقيقة الثامنة والثلاثين، لماذا أصرّ على استعمال فعل "انفجر" في حالة فرح؟ متى ننتبه ـ نحن الجزائريين ـ إلى خطورة أننا تصالحنا مع العنف، حتى أنه سكن قاموسنا؟ اللغة بيت الكينونة، وعلينا أن ننقّيه من قنابلها وفخاخها وبراميلها المتفجرة، مثلما يجب علي أن أنقّي نفسي فوراً من يأسي من الفريق.

قلت لنفسي التوّاقة إلى الفرح: إن فاتني أن أشاهد المباراة، فلن يفوتني أن أخرج إلى الشارع بعد نهايتها. لا شك في أنني سأجني ثماراً كثيرة، وسأشبع فضولي بالتقاطاتٍ جديرة بالكتابة، فلكل فعل إنساني هوامشُ تعني الكاتب.

دخلتُ إلى الفيسبوك أثناء راحة ما بين الشوطين، فغرقت في ضحك خبيث، ذلك أنني وجدت أصدقائي الملحدين يكبّرون، ويحمدون الله على توفيقه. شاكستُ أحدَهم: وأخيراً ها أنت تتفطّن إلى أن هناك ربّاً، فقال لي إنه همّ بأن يحذفها، لكنه رأى في ذلك خيانة للحظة عميقة، جعلته يكتب ذلك من غير أن يحس.

ومن غير أن أحسّ سألت الشاعر بوزيد حرزالله في الدردشة: هل صحيح أن هذا الصراخ الذي يصلني ناتج عن أهداف حقيقية؟ فردّ عليّ بأن سألني: هل أنت حي؟ قلت: لا تلمني.. هناك أمران فصلتُ فيهما منذ مدة في اتجاه اليأس منهما: أن تتحول الأنظمة العربية إلى الديمقراطية الحقيقية، وأن ينضمّ الفريق الوطني إلى نادي الفرق الكبيرة، هههههههههه. بالمناسبة: كيف نعرب هذه الهاءات صديقي بوزيد؟

عرض الكاتب والمترجم محمد عاطف بريكي سيارته للبيع مجاناً، وشاكس الشاعر نصر الدين حديد: أخشى أن نتأهل إلى الدور القادم، ونتقابل مع ألمانيا، فنخسر يومها الأسطورة التي عشنا عليها اثنتين وثلاثين سنة: فوزنا على ألمانيا عام 1982؛ في حين كتب الإعلامي نصر الدين العروسي أننا سنستبدل مشجب الفوز على ألمانيا، مطلع ثمانينيات القرن العشرين، بمشجب فوزنا على كوريا، لنعلق عليه هزائمنا القادمة إلى غاية 2032.

فلاش باك ثانٍ: لفظ القطار ركابه في محطات مختلفة، ولم ألاحظ هذه المرة أنهم يحملون علب الأكل الجاهز، مثلما لاحظت ذلك في مباراة بلجيكا، ليلتها استقالت الزوجة الجزائرية من إعداد العشاء، تماماً مثلما منح الموظفون والتجار إجازة لأنفسهم، كأنهم هم المعنيون بالراحة لا اللاعبون.

لم ينتظر خلق الله نهاية المباراة، فخرجوا مع الهدف الرابع إلى الشوارع والطرقات والساحات العمومية، فخرجت وأنا أضحك من تعليق الصحافي أبي طالب شبّوب: لا شك في أن فخامة الرئيس انتفض من كرسيه مع الهدف الرابع تحية للعهدة الرابعة.

فلاش باك ثالث: تذكّرتُ وأنا أنخرط في الدبيب المنتشي، ما كتبه صديقي أستاذ الفلسفة إسماعيل مهنانة: "صحيح أن معظم الأفراح الجماعية وهمية، عابرة، ومخدّرة، لكن الأعراس المونديالية هي المناسبة المتألقة الوحيدة التي تسمح لشعوب مقهورة، مهمّشة ومغمورة، شعوب القارّتين الجنوبيتين، بأن تشعر بنفس الفرح الذي تشعر به شعوب "الحضارة" و"التفوّق". وهي المناسبة الوحيدة التي يمكن فيها للأولى أن تصفّي حساباتها التاريخية مع الثانية بطريقة خالية من العنف".

أين كانت كل هذه الأعلام؟ أين كانت كل هذه المفرقعات؟ أين كانت كل هذه المحبة بين الناس؟ أين كان كل هذا الفرح؟ أين كانت كل هذه الوطنية؟ أين كانت كل هذه السيارات؟ أين كانت كل هذه الأصوات؟ أين كان كل هذا الشغف بالحياة؟

فلاش باك متأخر: كالعادة صحوتُ باكراً للعمل، فواجهني هذا السؤال: أين المدينة؟ كان الجميع غارقاً في النوم، فقلت لنفسي: مَن الأولى بأن يشعر بالعقدة من نومه: أنا أثناء المباراة؟ أم الوطن النائم بعدها؟

المساهمون