جزائريون يريدون الشهادة بكورونا

جزائريون يريدون الشهادة بكورونا

19 مارس 2020

جزائريون يتظاهرون في العاصمة في أجواء كورونا (13/3/2020/Getty)

+ الخط -
لعل الحراك الوحيد والتجمع الشعبي الأكبر على وجه الكرة الأرضية الذي ظل صامدا ومصرّا على البقاء، على الرغم من فيروس كورونا الخطير الذي شل العالم، هو في الجزائر، إلى غاية خطاب الرئيس عبد المجيد تبون، أول من أمس الثلاثاء (17 مارس/ آذار)، والذي قرر فيه منع التجمعات والمسيرات الشعبية مهما كان شكلها. ولم يكن التحدّي الذي خرج فيه جزائريون بالآلاف، يوم الثلاثاء نفسه، وقبله في يوم الجمعة الـ 56 من عمر الحراك الشعبي، لمواصلة مطالب التغيير الجذري، لم يكن تحدّيا للسلطة القائمة وحسب، بل ظهر وكأنه تحدّ لباقي المواطنين، وتحدٍّ لمرض كورونا نفسه، الأمر الذي أثار استغراب جزائريين كثيرين آخرين وغضبهم. اعتبروا ذلك استخفافا بأرواح الناس، وقلة وعي وانعدام ضمير، فالجزائر، كما بقية العالم، مهدّدة في وجودها، ولا مجال الآن في مثل هذه الظروف العصيبة لقضية الحريات والديمقراطية التي لم تعد أولوية. 
الحراك في زمن الكورونا.. لعله يكون الوجه الآخر للحب في زمن الكوليرا، بحسب رواية لماركيز، أو هو برأي الأديب الجزائري الطاهر وطار كما لو أنه "العشق والموت في الزمن الحراشي". ولأجل ذلك، يحتاج هذا الاستمرار الاستثنائي للحراك الجزائري على الأقل، لمحاولات فهم تتجاوز عالم الأدب والرواية، إلى خبراء علم الاجتماع والنفس، وربما الأنثربولوجيا، لفهم هذه الظاهرة الفريدة من نوعها حاليا في العالم.
إلى غاية الثلاثاء الماضي، وعلى الرغم من تجاوز عدد الإصابات الستين بكورونا، وتسجيل الوفاة الخامسة، خرج أيضا الحراك في قلب العاصمة الجزائرية وبعض المدن الداخلية، وقبل ساعاتٍ من خطاب الرئيس تبون بشأن أزمة كورونا، ليواصل رفع مطالبه في التغيير الجذري، على 
الرغم من دعوات كثيرة صدرت من داخله لتعليقه مؤقتا، ليكون هذا الخروج تحت وطأة شعاراتٍ مذهلة، انتقلت من شعارات الحراك الأصيل، في بداياته الحضارية الأولى، "جيش شعب خاوة خاوة"، لتسقط في متاهةٍ عدميةٍ صادمةٍ، تقول بعض كلماتها "كورونا والحراك خاوة خاوة"، و "كورونا ولا أنتوما" (أي كورونا ولا أنتم يا جماعة الحكم)، وشعارات أخرى، ملخصها أن النظام الجزائري والجنرالات أبشع من فيروس كورونا، وقد أثبت المتظاهرون ذلك بالخروج من دون أن يضع معظمهم الكمامات، ومن دون تعقيم ولا تدابير احتياطية، ليطبقوا عمليا توجيهات تيار راديكالي متطرّف داخل الحراك، وصل به الحال إلى حد تبرير عدم الخوف من كورونا بالقول إن الجزائريين لا يعيشون أصلا، وبالتالي فإنهم لا يخشون الفيروس كما تخشاه باقي الإنسانية، بل إنهم مستعدون للشهادة بالكورونا على أن يظلوا تحت حكم العسكر، كما يقولون.
يحدث هذا وسط عاصمة عربية كبيرة، خرج شعبها أو على الأقل جزء من شعبها، يسخرون من كورونا ويفتحون صدورهم للفيروس، ربما من شدة اليأس والإحباط من أوضاعهم المعيشية، في الوقت الذي كان العالم كله يختبئ مرعوبا من الفيروس القاتل، وكان سكان الأرض قاطبةً يدخلون بيوتهم ويغلقون الأبواب، خشية من أن يقتحم عليهم الفيروس "محاجرهم الصحية". لقد خلت في اليوم نفسه شوارع باريس وروما ومدريد، ومعظم عواصم الدنيا، من أي حركة بشرية، وأعلنت الإدارة الأميركية حالة الطوارئ، وأقرّت فيه أوروبا بفقدانها السيطرة على الفيروس، وتقدّم فيه رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، بالتعازي المسبقة لشعبه، لأنه سوف يفقد الكثير من أحبائه قبل الأوان، وتوقعت فيه المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون أن 70% من سكان ألمانيا وفرنسا سيكونون عرضة للفيروس، واعتبرت الصين وإيران الوضع حربا بيولوجية تستهدف وجودهما، فيما تسابقت إيطاليا واسبانيا في إحصاء عدد الوفيات.
والحقيقة أن استمرار الحراك الجزائري إلى آخر لحظة، قبل قرار إعلان حالة الطوارئ المتوقعة، يترجم حالة من الاستهتار والسخرية، يواجه بها الإنسان العربي، في عمومه، والإنسان الجزائري خصوصا، خطر الموت بالتحدّي والسخرية وطلب الشهادة. ولعله الجزائري الذي يعتقد أنه طالما لم يمت في العشرية الحمراء، ولا في قوارب الموت، ولا من الأمراض الفتاكة الأخرى ضمن منظومةٍ صحيةٍ مهترئة، لا يمكنه أن يموت بكورونا، تماما كما يعتقد السوري أن كورونا أرحم بكثير من البراميل المتفجرة والكيميائي، ويعتقد المصري أن كورونا أرحم من فيروس سي، والعراقي يرى كورونا أرحم من الفيروس الإيراني المليشياوي وهكذا.
لم يشفع ذلك كله عند بعض الجزائريين، لكي يتوقفوا عن التظاهر. لقد تحوّل الخروج في 
مسيرات الرفض والمعارضة حالة وجدانية تصعب على الفهم. والمدهش هنا ليس الشعب وحده، والحراكيون من الذين يفتحون صدورهم للفيروس بكل حب، بل إن سلوك الحكومة الجزائرية، قبل خطاب الرئيس تبون، ظهر متساوقا مع توجهات جزء من الشعب، فهي لم تكتف بإبقاء الرحلات البحرية والجوية من أوروبا وإليها إلى غاية 19 مارس/ آذار، من دون أن تخضع الوافدين من المواطنين المغتربين الذين هربوا من مناطق الوباء، خصوصا من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها، لنظام الحجر الصحي، بل تركت آلافا منهم ينتشرون بكل حرية في كامل أرجاء البلاد، لتكون كل الإصابات المعلنة تقريبا ناتجة عن هؤلاء المغتربين، أو ممن اختلطوا بهم، بل وأعلنت على لسان الوزير الأول، عبد العزيز جراد، أنها لا تمانع استمرار الحراك الشعبي، لكنها فقط ترجو من الحراكيين اتخاذ الاحتياطات اللازمة.
وتحدث بعض الساخرين في الجزائر عن خطة الحكومة المحكمة لاستيراد الفيروس عبر المطارات والموانئ، مع ترك الحراك الشعبي يقوم بعملية الانتشار الأفقي محليا. وتطورت السخرية إلى درجات أعلى، وقد اكتشف آخرون أنه لأول مرة في الجزائر منذ إطاحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، يحدث تحالف غريب بين السلطة والحراك الشعبي، على رأس المواطن الغلبان وصحته، وإلا فكيف يتم غلق المساجد التي يذكر فيها اسم الله، ولا تغلق الموانئ والمطارات والساحات العامة؟
نظرية المؤامرة هنا تفرض نفسها في اتجاهين: الأول هذا يقول بتحالف السلطة والحراك على رأس المواطن البسيط الغلبان، عبر الخطابات السياسية الممجوجة لرؤوس السلطة المرتعشة التي عجزت عن غلق الساحات ومواجهة الحراك بالصرامة اللازمة، في الوقت المناسب، أي قبل خطاب الرئيس تبون مساء 17 مارس/ آذار، والذي اعتبره بعضهم متأخرا بعض الشيء، على اعتبار أن القضية قضية وطن، وليست قضية حراكيين (انتحاريين) يريدون الموت أو الشهادة، ويأخذون 40 مليون جزائري في طريقهم. واتجاه آخر يتحدث به الحراكيون أنفسهم، أن كورونا مؤامرة من سلطة الحكم لاغتيال الحراك الشعبي، بدليل تأخر قرار غلق الموانئ والمطارات، وعدم تطبيق الحجر الصحي على الوافدين، حتى يمكن بعد ذلك استخدام "الفيروس" شماعة لوقف الحراك ومنع التجمعات الشعبية، ولذلك يرفض أكثر الأطراف راديكاليةً داخل الحراك ترك الساحات، وتمرير تلك "المؤامرة"، ولو على جثثهم كما يقولون. وهذا التفكير أكثر ما يدعو إلى الصدمة في الجزائر، فقد تحوّلت هذه العقلية الصدامية "الانتحارية" خطرا كبيرا على البلاد، بعد أن تراجعت أصوات العقل والتبصر والحكمة، أمام حملات التخوين ضد كل من يطالب بالتهدئة في هذه الظروف الاستثنائية، فالأمر يتعلق بأرواح الناس، فهل يجب أن تصل رائحة الموت إلى أنوفنا تماما، حتى ندرك الخطر؟ وهل يتوجب أن تتكرر الصور المأساوية في كبريات العواصم العالمية في الجزائر حتى نشعر بالخطر وتتوقف أدوار البطولة الزائفة؟
صحيحٌ أن هنالك مشكلة ثقة عميقة، بين الحاكم والمحكوم، من الصعب تجاوزها، لكن القضية 
اليوم أبعد من قضية سلطة ومعارضة، وأبعد من مجرّد رفع شعارات الدولة المدنية ضد الدولة العسكرية، بينما العالم يعلن حالة الطوارئ، ويستنجد بالجيوش في حرب مفتوحة ضد الفيروس. بل وهي أبعد بكثير من قضية حراك شعبي، خرج لتغيير السلطة الفاسدة، وها هو يتحوّل ربما إلى آلة لصناعة فساد أكبر يضرب مباشرة في صميم مقاصد الشريعة وقيم الإنسانية في حفظ النفس.. وإلا فما هذا الحراك؟ يتساءل كثيرون، هل هو مثلا أقدس من الصلاة التي تم منعها في المساجد؟ هل هو دين جديد مثلا؟
كان الحراك الجزائري الأصيل، في بداياته، حضاريا أبهر العالم بسلميته ورقيه وشعاراته الوحدوية الجامعة، وتقديسه الحياة، بعدم إراقة قطرة دم واحدة. كان حراكا للحياة والجمال والفرح، حتى سمي ثورة "الابتسامة". لكنه مع الوقت، وكثرة الاختراقات والمحرّكين، فقد بريقه لدى أغلبية الجزائريين، إلى أن وصل إلى حراك أبهر العالم بقلة الوعي والإصرار على الموت، لكن ليس بواسطة الرصاص الذي رفض الجيش إطلاقه على الجماهير، وإنما بواسطة كورونا التي يصفها بعضهم "الحنونة" (الحبيبة). لذلك، لم يعد مهما بعد هذا أن يخرج من اعتاد على التهويل لوصف قرار الرئيس تبون منع المسيرات والتجمعات الشعبية تنفيذا لخطة "العصابة" الحاكمة لوأد الحراك الشعبي، فقد انحسر هؤلاء المزايدون تماما بعد هذه الأزمة "الفاضحة" للنوايا، وظهرت الفروق بين من كان يريد فعلا دولة الحريات والعدالة، ثم انسحب عندما رأى الدولة برمتها مهدّدة في أسس وجودها، ومن أصر على "التاغنانت" (عبارة جزائرية تعني الإصرار على الرأي الباطل)، ودعا الناس إلى الاستشهاد في ساحات التظاهر بكورونا.
يصل الإنسان، في عالمنا العربي، إلى مستوياتٍ من الجنون والتحدّي تتجاوز حدود الشجاعة إلى التهور والإلقاء بالنفس الى مهاوي التهلكة. لكن أن تصير الشهادة بكورونا طريقا لدخول الجنة المفقودة في أوطاننا الفقيرة بالعلم، فتلك صناعة جزائرية خالصة، وجب حفظ حقوق التأليف فيها لأصحابها.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية