جريمة في رام الله

جريمة في رام الله

05 ديسمبر 2016
وسيم غزلاني/ فلسطين
+ الخط -

أخذ أخي يدور في الغرفة وهو يصرخ ويحكي كلامًا كثيرًا، يدعمه أبي بعبارة أو تأكيد، وتدخل أمي الجوقة بدعاء وبكاء. استمر أخي في الحديث لأكثر من نصف ساعة دون أي توقّف، لم أكن قادرًا على فهم ما يقول، توتر هائل يتصاعد في الغرفة وأشعر أن دمًا كثيرًا يسخن بسرعة فائقة.

ما اتضح لي ولأول مرة خلال جولة الصراخ الطويلة أن أهلي اختلفوا دون أن أدري، صاروا أكثر قلقًا وغضبًا، أبي وأمي يصليان وأخي أيضًا، ولغتهم اختلفت، يحضر الله فيها كثيرًا. نهضت أمي لإعداد القهوة، تبعها أبي وأخي، شعرت أنني ضيف فعلًا في غرفة الضيوف.

تمتماتهم كانت واضحة، أمي تقول إن الحل ربما في الزواج، وإلا لماذا أنا مستعجل على العمل والتعب وجمع المال. علا صراخ أبي وأخي. رتبت الأمر في ذهني، أكثر ما يؤلم أبي أنني تركت الجامعة، هذا ظاهر حديثه، أما أخي فيكاد ينفجر من طريقتي بالكلام، من المسار الذي اخترته لنفسي، لديه مشكلة في السيطرة على حياتي وماذا أفعل وأمي وأبي يوافقانه.

قبل ساعة كنت أعيش بلا أب فعلي، أبي البيولوجي تقاعد، وأبي الوظيفي استقال حين رزق بأبناء، وأمي انحشرت في حدود القرية. الآن أنا بأبوين وأم يريدون وصاية كاملة.

ضحكت مع نفسي بتوتر. كانت المرة الأولى والأخيرة التي أضطر فيها إلى مواجهة عائلتي. كنت محظوظاً دوماً بعائلة مخفّفة، موجودة وغير موجودة، وكان ما يحاولون فعله في ذلك اليوم بمثابة عملية تبني طفل متأخرة بأكثر من عشرين سنة، أما ما كنت أحاول فعله فهو إعادتهم إلى الحالة الأولى.

عادوا مع قهوة ونبرة مخففة ولكن بمضمون أشد، تخيلته الحوار التقليدي الذي يضطر كثيرون وكثيرات مثلي لخوضه عند ولادتهم الثانية، خروجهم من رحم العائلة إلى حياتهم. حاولت أن أكون هادئًا.

مطالبهم، العودة للجامعة والعودة إلى البيت، فالأوضاع هادئة بعد سنوات التوتر مع الاحتلال والقرية قريبة من رام الله والمواصلات مؤمنة دومًا، أما عناصر الترغيب فهي وعد بزيادة مخصصاتي الشهرية التي يعطيني إياها أخي، وبعد التخرج فلي كل ما أريد.

أهلي تغيروا، لستُ وحدي من يتغير.

فكرت بدنيا، بل ظهرتْ أمام عيني، وجهها يكاد يلمس وجهي، شعرت بأنها قريبة، ولا يمكنني التخلي عنها. لا يمكن لأهلي أن يكونوا الحائل بيني وبينها، أن يقفوا جدارًا في مسار الجري قبيل نهايته! أحسست بأنفاسها على وجهي، قريبة جدًا، أقرب من قبلة وشيكة.

قلت لهم بكل الحزم الذي لملمته من عقلي وجسدي ووجه دنيا، إن لي حياتي وأنا أتدبر أمرها. وليطمئنوا عليّ.

كانوا خائفين ويعتقدون أنني أخفي الكثير أو أمضي إلى ما هو أسوأ بالنسبة لهم من حالي يومها.
عاد الصراخ.
وقفت، قلتُ إن لدي عملًا ويجب أن أخرج.
قال أخي إنني إن خرجت فأنا أختار ألا أعود..
كانت عبارة قوية تصلح في فيلم أو مشهد تمثيلي، وتليق بولادة جديدة.
خرجت ولم أعد.
إلا اتصالاً هاتفيّاً كل أسبوعين مع أمي تظل خلاله تحاول إقناعي بالعودة للجامعة، تريد أن تسمع مني وعدًا بالعودة قريبًا، وتطمئنني بأن أبي سيرضى عني بمجرد عودتي للجامعة، وتذكرني في كل مرة بأن أبي تخلى عن كل شيء حتى أتعلّم أنا وإخوتي. باع أبي الجزء الأثمن من أرض ورثها عن أبيه لتسهيل دراستنا.

تذكرني أمي بأن أبي لم يبق له أرض، استولت المستوطنات القريبة على جزء منها وباع الباقي ليعلمنا. لم يوجعه شيء، أكثر من تعطّل دراستي، أنا أفرّط بالشهادة التي يفكر هو بها دومًا، الشهادة التي ستمكنني من الوظيفة، الوظيفة التي قد يمكنني راتبها بعد سنوات من شراء شقة في رام الله أزرع على نوافذها زهوراً تافهة، أو أقترض مبلغًا كبيرًا لأشتري قطعة أرض. هكذا يرى أبي المسار الطويل دون أن يلحظ أي سخرية فيه، لا هو ولا أمي.

حين دخل أبي التنظيم توقف عن الفلاحة، كان النضال للدفاع عن الأرض وانتزاع الحق فيها، في إحدى محصلاته ابتعادًا عن العلاقة اليومية معها، ومن ثم تحويلها من مصدر حياة إلى رصيد مجمّد نحتاجه في الضرورات وننتظر أن تزيد السنوات من قيمته، وكانت الضرورة الأهم تعليمنا.

في صالة بيتنا لوحة زيتية كبيرة لعائلة ممتدة عائدة من أرضها بثلاثة حمير تئن تحت شوالات منتفخة وأطفال يتعربشون السناسل، يمكن أن تكون تلك اللوحة الزيتية آخر صورة لعائلة أبي، لم يبق لنا من الفلاحين إلا اسمهم. كأنها صورة لأجداد بعيدين، مع أننا كنّا مَن في الصورة قبل سنوات قليلة فقط.

زيتوننا تقطفه عائلات من قرى أخرى على نسب محددة، وحين يجلبون الزيت إلى البيت أشعر بملامح ارتياح على وجه أبي، ليست سعادة بل ارتياح يشبه ملامح الوجه بعد شرب الماء، بعد ملء نقص ما. ربما كان ذاك الرغبة الدفينة غير الواعية والمتوارية في التحوّل إلى مالك أرض يعمل فيها آخرون.

في المحصلة كل شيء اختفى، الأرض والملك والنقص والرغبة، على عتبات جامعة تركتها بحثًا عما اعتقدت أنه أهم وأجدى. تصرف أبي بالأرض التي أعطاها إياه أبوه، وتصرفت أنا بالجامعة التي أعطاني إياها أبي، كنا متعادلين غير أنني كنت أقطع السلسلة ولا أنوي توريث أحد شيئًا. على الأقل هذا ما كنت أريده وتواطأتْ معه دنيا في عقلي.

ـــــــــــــــــــــــــــ
لا يعيش الكاتب الفلسطيني عبّاد يحيى (الصورة) في رام الله فقط، بل إنها تعيش وتتنفس أيضاً في رواياته التي نشرت ما بين 2012 و2015. في عمله الأول "رام الله الشقراء"، رصد تناقضات المدينة وتحوّلاتها بعد "أوسلو"، أما في عمله الثالث "هاتف عمومي" فقد تقاسمت الشخصيتان الأساسيتان تجسيد المدينة ما بدا منها وما خفي. وفي عمله الذي يصدر قريباً عن "منشورات المتوسط" ما زالت رام الله ساحة السرد وبطلته. 


دلالات

المساهمون