جريمة بأسانيد شرعية

جريمة بأسانيد شرعية

04 فبراير 2020

(Getty)

+ الخط -
ندى، طفلة مصرية عمرها 12 عامًا، من قرية الحواتكة، في محافظة أسيوط، أخذها والدها بنفسه إلى طبيب لإجراء عملية الختان، حيث يقطع من جسدها بالموسى، حفاظًا على ما يُعتقد أنه عفّتها وطهارتها. جراحة شرعية حكمها بين الواجب والمباح والمستحب، كذا تنص كتبٌ في الفقه، وتفيد به الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم. ذهبت ندى، وبدأت إجراءات الذبح، وانتهت بموتها. بالغ الطبيب، وبدلًا من استئصال شهوتها، استأصل عمرها.
هذه العملية، من وجهة نظر الطب الحديث، جريمة كاملة، واعتداء على جسد طفلة من دون إرادتها، ومن دون شكوى منها تستوجب تدخل الطبيب، ومن دون سند علمي واحد. تشويه لأعضائها التناسلية، وحرمانها، لا من الشهوة كما يعتقدون، بل من الاستمتاع الجنسي والوصول إلى الذروة (الأورجازم). تحويلها إلى ماكينة لاستمتاع الرجل وإنجاب الأطفال، من دون متعةٍ مستحقةٍ وهبها لها الخالق، وانتزعها بعض المخلوقات المحسوبة على البشر. تموت الطفلة، في الحالتين. إذا ماتت، فبها ونعمت، ماتت شهيدة الشرف، وأوامر الشرع، لن يغير ذلك من عادات القوم المدعومة بتوقيع الفقيه عن رب العالمين. وإذا عاشت، ظلت تفاصيل العملية تطاردها في جسدها وفي مخيلتها. تقتلها ألف مرة، وهي حيّة. بعض الفتيات يُصبن بفوبيا تجعل الاقتراب من هذه المنطقة بعد ذلك عملية شديدة الإزعاج، حتى الممارسة، قليلة المتعة، تتحول إلى عذاب نفسي، في كل مرّة، من جرّاء ما حدث في سن مبكّرة. تفاصيل العملية نفسها رعبٌ حقيقي، خصوصا إذا كان المستشفى أو العيادة محدودا الإمكانات. إجراءات تجريدها من ملابسها، وفتح قدميها، البكاء والرعب والرفض والتوسل والتخدير والقطع، ومقابلة كل ذلك الألم النفسي بالفرحة والحبور والتهاني والتبريكات من الأهل، تشويه لنفسية الفتاة لا يقل عن تشويه جسدها. ذلك كله بمستندات شرعية لا غبار عليها وفقا للمنظومة الأصولية القائمة، والتي يرى شيخ الأزهر، أحمد الطيب، والمصفقون له أنها لا تحتاج إلى تجديد، وصناعة الكاوتشوك أوْلى.
صدر، في العام 2009، عن دار اليسر في القاهرة كتاب "فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف في ختان الإناث"، وهو تجميع لفتاوى علماء شغلوا منصبي شيخ الأزهر أو مفتي الديار المصرية، بالإضافة إلى فتوى الشيخ يوسف القرضاوي، نظرا لمكانته ورئاسته للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في ذلك الوقت. جاء الكتاب ردًا على حملاتٍ إعلامية ضد الختان، استجابة لضغوط دولية تحاول الحدّ من هذه الجريمة في أفريقيا والشرق الأوسط. مجمل آراء كبار العلماء في الختان أنه "تشريع إسلامي"، لا يجوز تجريمه، أو تحريمه، وأنه ورد في الأحاديث الصحيحة، وأن تجريمه مؤامرةٌ غربيةٌ، تقف وراءها الأمم المتحدة التي سيطر عليها العلمانيون والملاحدة. اللافت أن لمفتي مصر الأسبق، الشيخ علي جمعة، فتوى في الكتاب يدافع فيها عن إسلامية الختان، وفق منهجه الأصولي، وهو من كبار علماء الأصول "المتخصّصين"، وهي فتوى غيّرها الشيخ بعدها، وفقا لمقتضيات الإكراه السياسي، مستخدمًا الأدوات الأصولية نفسها، من دون تعنت منه أو افتراء على التراث!
في الكتاب، وهو متاحٌ على الإنترنت، يمنح كبار العلماء سلطة تقطيع جسد الفتاة إلى أبيها، فإن أراد الأب فالإسلام معه، وإنْ لم يُرد، فلا جُناح عليه. أما البنت فلا سلطة لها على جسدها، ولا قرار. لم يأت المشايخ الكبار بشيءٍ من عندهم، ولم يكذبوا في حرفٍ واحد. على العكس، ربما كذب المحَرمون والمجرمون بتواطئهم مع الطب الحديث، كذبوا على التراث، وكذبوا على الأدلة الشرعية، وكذبوا على التاريخ، وإنْ لم يكذبوا على الحقيقة، باختصار الحقيقة في جانب والأدوات والعلوم والمعارف الشرعية الموصلة إلى الحكم، والمؤصلة له في جانب آخر، وبدلاً من إعادة الاعتبار لمركزية النص القرآني، وإعادة النظر في منهجية التعامل مع مرويات الحديث، وإعادة البحث في العلوم الشرعية بوصفها منتجاً بشرياً قابلاً للنقد والمراجعة والتجديد والتطور، بل والحذف والاستبدال إذا اقتضى الأمر، يرى مشايخنا أن على الواقع والمستقبل أن يخضعا لسلطة الماضي. ماتت الطفلة ندى، هذا يقينٌ لا يقبل الشك، خليقٌ بأن يُهدى للشيخ الطيب، كما أمر.