جرحٌ في اللسان: يوميات طبيب متدرّب 1-3

جرحٌ في اللسان: يوميات طبيب متدرّب 1-3

12 يونيو 2016
"سبعة ممرات"، لـ فرانسوا مورلي/ فرنسا
+ الخط -

اليوم الأول (23 مارس 2015)
أسأل عن الدكتور بايِر. يجبونني بأنه لم يصعد بعد. ما يزال في الجلسة. يتجاوز شاب يقربني عمراً الأبواب التي تفصل مكان الانتظار في ممر وحدة الدمويات. ويسأل: أتيت مع جدي، أخذتم منه عينة الدم. أيمكنني أخذه لتناول وجبة الإفطار؟ تجيبه الممرضة: نعم نعم، الآن يجب الانتظار إلى أن تخرج نتيجة فحص عناصر الدَّم. قبل أن يعود بصحبة جده ينظر إليّ.

يتساءل. أستشفّ أن المسافة التي تفصل نظرته عني هي أكبر بكثير من جزء الممرّ الذي يوجد بيننا. حين يعود لمكان الانتظار تخترقني عيناه. أفكر أن الرداء الأبيض على كتفي يكون أحيانا بمثابة السور شديد المتانة.

تطلب مني الممرضة الجلوس. تطلب مني أن أنتظر. تشير صوب كرسي أزرق اللون داخل العيادة.

أجلس. أنتظر. أسحب من حقيبتي ديواناً لشانتال مايارْد عنوانه "جرحٌ في اللسان" وأقرأ. أقف عند الصفحة الأربعين. لا أفهم. أتساءل. أضع مستطيلا على خمس كلمات: "الصدى/ الذي ينادي على الهاوية". أتظاهر أنني فهمت. أُعيد صياغة السؤال. يتقوّس ظهر الكرسي مثل الوقت.

[...]

المريض الأول
خوان يبلغ من العمر 82 عاما. إنه جدّ الشاب. لا يفهم. يريد أن يعرف، لكنه لا يفهم. ماذا ينتظر؟ بدأنا الحصة الأولى بالريتوكسيماب والبينداموستين. حفيده يتفهّم. يحسّ بالفخر لمرافقة جدّه إلى المستشفى ولإكماله قصة القمح والعجين والخبز. قبل أن يذهب، يُخرج خوان قنينة شراب ويقول للطبيب: إنها قنينة شراب أحضرتها لك يا دكتور.

نعود أنا والشاب لتبادل النظرات. كلانا يتعرّف على القنينة ذات اللون الأخضر الداكن وعلامة الغزال الأبيض عليها: إنها قنينة Jägermeister. نضحك صامتين بعيوننا. كل واحد منا يتذكّر لياليه مع هذه القنينة. أحيانا تكون الأشياء التي تجمع بين الأشخاص غريبة. وما يفرق بينهم أيضا. الرداء الأبيض لم يعد له أهمية.

[...]

المريض التالي
تبلغ تِريثا من العمر 76 عاما. تعاني من سرطان الدم الليمفاوي المزمن. تظل هادئة أكثر حينما يخبرها الدكتور بايِر أننا لن نخضعها للعلاج الكيميائي. تبتسم لأنها ستكون من بين المرضى الأوائل الذين سيتناولون حبوب إيديلاليسيب في إسبانيا. تؤكد أنها ستصبح شهيرة.

إنها تعاني من عقدة رقبية. أفشل في تلمسها في المحاولة الأولى. ساعتها تقول لي: "بقوة، لا تخف". مثل هذه الكلمات كان عليّ أن أقولها أنا للمريضة وليس العكس. من يصوّر مريض السرطان على أنه شخص ضعيف، فإنه لا يعرفه. في الحقيقة وعي مريض السرطان يتضاعف مع تضاعف خلاياه.

يبحث الدكتور أيضا عن وجود عقد فوق الترقوة أو في الإبط أو في الأربية. لفحص هذه الأخيرة لا يعري المريضة. فقط يقوم بسحب بسيط للملابس. ملاية بيضاء تحمل اسم المستشفى باللون الأزرق الداكن على بشرتها. تحت بشرته هو الألياف تخفق بتوتر. الفعل يصبح شعيرة دينية. الإيمان كأنه قضيب معدني محموم. إما التمسّك وحرق اليد الممسكة به. أو تركه وأنت في المنخفض والموافقة على السقوط.

[...]

المريض الأخير
يبلغ مارتين من العمر 81 عاماً. ما يقلقه كل مرّة يأتي فيها إلى المستشفى هو أن لا يتبوّل على ملابسه في الحافلة. لهذا فإنه لا يتناول حبوب التبول -Seguril® الفوروسيميد- في الأيام التي يتوجب عليه الحضور إلى العيادة. تشخيصه، بالكاد 5 لترات. 5 أحمال تثقل كاهل رجل يثقله ماء جسده. يعاني من سرطان الغدد الليمفاوية في المعدة.

عدواني جداً، يقول لي الدكتور بايِر بصوت منخفض لكي لا يسمعه مريضه. لكن مارتين يعلم. لا يسأل. يتألّم إن وضعت يدك على بطنه. ينتظر؟ عجزه عن الدفاع عن نفسه، مثل وردة قصيرة جداً، تتفتّح فوق نقالة المرضى.

سنه 81 عاماً والكثير من السوائل حول قلبه وفي رجليه. يشير بعينيه إلى ما بين رجليه. يمسك بيده معصمه. وبصوت منخفض لكي لا تسمعه المرأة التي ترافقه. أحيانا يصبح هكذا. يحتمل الجلد علو ضغط الدم الكبير قبل أن ينهك.

نؤجل حصته للعلاج الكيميائي (جيمسيتابين + أوكساليبلاتين + ريتوكسيماب) لأنه ليس بحالة جيدة. يحس بوخز عند التبوّل. يشك الطبيب في إصابته بالتهاب السَّبيل البَولِيّ ويصف له Monurol® - فوسفوميسين + تروميثامين- 2غ، مغلفان، كل يوم واحد. الانتظار. فتح الفم. ليس للسؤال وإنما لأخذ الدواء. أو السم. والانتظار. وعدم معرفة ما الذي يجري وسط أجسادنا المفلسة. العلاج لو خلق فإنه يخرج من عدم اليقين.

[...]

أُدَوّنُ في آخر صفحة من الكتاب هذه الفكرة: أناس يسألون. أناس ينتظرون. عدم يقين. فرض الصبر. الألم؟ أحياناً نعم. أحياناً الألم أيضاً. لكن بالخصوص عدم معرفة كم سيأخذ من الوقت -لا أحد يعرف. هكذا المرض.

* شاعر إسباني من مواليد أوفيدو بشمال إسبانيا عام 1992

** ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

المساهمون