جدلية قرود الحداثة

19 اغسطس 2014
+ الخط -

حين يقرأ أحدنا كتاباً، أو تقريراً، أو تحليلا عن انقراض فصيلة نادرة من القرود المدارية التي تقضي معظم حياتها فوق الأشجار، فإنه نادرا ما تتداعى، في ذهنه، العلاقة السببية الكامنة بين الكتاب الذي بين يديه، من جهة، وحقيقة انقراض القرود المدارية من جهة أخرى.

ولا سيما أن الرحلة من الغابات إلى الخشب، ومنه إلى الورق الذي يصنع منه الكتاب، تبدو أطول من أن يلمّ بها خيال إنسان القرن الواحد والعشرين.

وتأخذ المفارقة منحنى كاريكاتورياً حين تقرر مجموعة من نشطاء البيئة شنّ حملة ضارية على أعداء الطبيعة، لحماية الغابات وإنقاذ ما تبقى من القرود المدارية. إذ سرعان ما ندرك أنه كلما انبرت الأقلام، واستعرت الحملة الخضراء، وأحكمت سيطرتها على الوعي العام، كلّما ساهمت الحملة ذاتها في تقويض أسباب ما تدافع عن بقائه.

فحملات التوعية، في نهاية الأمر، تحتاج إلى كمية هائلة من الورق، والورق يصنع من خشب، والخشب يأتي من الغابات، وهكذا دواليك.

ولا تقتصر المفارقة على مصير القرود المدارية، أو غير المدارية، بل هي صورة استعارية لكلّ ما يحدث من حولنا. ففي سياسات الدول الرأسمالية، مثلاً، تسمح الحكومات، بين حين وآخر، بنشاطات سلمية، أو حتى غير سلمية، لتعزيز سيطرة النظام على الشعب، من خلال ما يمكن تسميته وهم الفعل.

ولا يعدو ما نشهده من مظاهرات واحتجاجات يومية، أمام هذا المبنى الحكومي، أو تلك السفارة الأجنبية، أن يكون سوى صمامات أمان حيويّة، لا تجيزها الدولة الليبرالية الحديثة فحسب، بل وتختلق أسباب وجودها، إذا اقتضى الأمر. ونادراً ما يدرك جمهور المتظاهرين، في هذا السياق، أو غيره، بأنهم في واقع الأمر يدورون في فلك النظام نفسه.

كلّ هذا ونحن، أعني جمهور المتفرجين، وكما يحدث في المسرح أو السيرك، أو على الشاشة الصغيرة، نتابع الدولة وهي ترصد دورة الشعب حول نفسه، في حين يتابع الأخير دورته، من دون أن يدرك أنّ ذلك القرد من هذا الكتاب. أقول إنّ المواطن الحديث، بوصفه كائناً وجودياً وتراجيدياً في آن معا، نادراً ما يدرك أنّ مأساة القرود المدارية ما هي إلا استعارة تراجيدية لمأساته هو.

والحقّ أن مفارقة القرود المدارية تتيح لنا فهم تطورات سياسية كثيرة في العالم. ويعود ذلك إلى قدرتها الفريدة على احتواء مجمل التناقضات التي تكتنف عالم السياسات الحديثة، أكثر بكثير مما تحتمله نظرية المؤامرة التقليدية.

ولا سيما بعد أن صار التمييز بين الوهم والحقيقة، الحرب والسلام، الخير والشر، وإلى آخره من الثنائيات في عالم ما بعد الحداثة، ضرباً من المستحيل. أقول إنّ أية قراءة، وأية ثورة، بل أية فكرة تحررية، لا تضع مصير القرود، المدارية وغير المدارية، على جدول أولوياتها، بوصفه محاكاة تراجيكوميدية لدينامية السلطة وعلاقة المواطن بالدولة الحديثة، لا تلبث أن تحمل بذرة فنائها في داخلها، وتحرق باليسرى ما تزرعه باليمنى.

ولأستدرك، إذن، سواء أكان الإنسان الحديث ينحدر من فصيلة القرود، كما اعتقد داروين، أم معرضاً لخطر الانقراض على طريقة القرود المدارية، كما يقول تشومسكي، فلعلّه يبقى أذكى من أسلافه، فيما يخص مستقبله على هذه الأرض، وقدرته على التمييز بين الوهم والحقيقة، إذا عرف كيف ينفذ إلى ما وراء الحدث، على طريقة القرود المنقرضة.

avata
avata
سراج عاصي (فلسطين)
سراج عاصي (فلسطين)