جدلية الطالب المميز

جدلية الطالب المميز

19 ابريل 2017

كل طالب بالضرورة متميز

+ الخط -
تَطرح مقولة "الطالب المميز" في تشكّلها؛ بوصفها مفهوماً ناتجاً عن تفاعلات اجتماعيّة داخل الحرم الأكاديمي، أسئلة عديدة بشأن طبيعة (ودوافع) تشكيل هذا المفهوم للطالب "المميّز/ المتميّز"، والعلاقة مع رغبات مختلفة في تحديد مفهوم التميّز ضمن رؤيةٍ تخدم تصوّراً أو هدفاً أو جهة ما.
لا نستطيع الادّعاء أن هناك مفهوماً واحداً مُعرّفاً مُعتمداً للطالب المميّز، وهذا المفهوم أصلًا ليس ظاهرة علميّة تاريخيّة، كي نُثبّتها مفهوماً مُتّفقاً عليه، إلّا أنها ظاهرة اجتماعيّة جارية داخل المدارس والجامعات، فيُقال إن فلاناً طالب مميز، أو تُكرّم فلانة ضمن مجموعة من الطلبة المميزين، أو قد تُعلن مدرسةٌ ما قائمة بأسماء الطلاب المتميزين لهذا العام، أو تُرسل إدارة جامعة ما مجموعة طلبة لتمثيل الجامعة أو أنفسهم في لقاءٍ ما أو بعثة إلى الخارج، وذلك بناءً على تميّزهم.
وإذا عرّفنا مميزاً/ متميّزاً على أنه الشخص المختلف في سلوكه عن الآخرين، ولديه شيء يُميّزه بشكل منفرد، ويعطيه قيمة إضافيّة، ويجعله متمايزًا عن "الآخرين" غير المميّزين في مجالٍ ما، ووضعناه في سياق طُلابي، نستنتج أن هناك سلوكًا معينًا على الطالب أن يسلكه، لكي يحصل على هذه الميزة، أو يُصبح من هذه الطبقة.
غالبًا ما يتم إنتاج هذه الطبقة، أو هذا المفهوم، خدمة لهدفٍ ما، من خلال معايير تضعها السُلطة، لتحقيق رغبة أبعد وأعمق من عمليّة تعريف من هم الطلبة المميزون بحد ذاتها على أساس علمي وأخلاقي. وغالبًا ما يُفسّر أن التميّز مبنيٌّ على التفوق العلمي، ويكون حجةً في بناء التعريف، مع أن التميّز كمفهوم، والتفوّق العلمي كتحصيل دراسي، مختلفان، وليسا مقرونين ببعضهما، فقد يحصل أن يكون غالبيّة الطلاب متفوقين في تحصيلهم العلمي وهناك مجموعة قليلة رسبت، فهل نقول عن الراسبين إنهم الطلبة المميزون في المدرسة؟ مع أنهم مميّزون عن الأغلبية كونهم رسبوا. وقد يكون من الطلبة الراسبين من تفوّق وتميّز في أحد المواضيع الدراسيّة دون غيره، والذي يستهويه أو حتى لديه اهتمامات من خارج المنهاج الرسمي، تستطيع أن تجعله مميزًا في هذا المجال عن الآخرين.
لذلك، لا يمكننا اعتبار التفوّق العلمي لَبِنة مركزيّة في تشكيل مفهوم الطالب المتميّز، فحتّى التفوّق العلمي يمكن أن يكون محكومًا بظروفٍ اجتماعيّةٍ قهريّةٍ معينة، تحول دون حصول الطالب على التفوق (وهي كثيرة ومتعدّدة)، أو بسبب نجاح بعض الطلاب في الغش (أصبح أسهل في عصر التكنولوجيا) مما يمكّنهم من التفوّق.
وعادة ما ترغب المؤسسة التعليميّة، كالمدرسة أو الجامعة، بتقديم مجموعة الطلبة المتميزين في حفل التخرّج أو أمام الإعلام، بهدف تقديم نفسها أنّها تُخرّج للمجتمع طلبةً متميزين، ولديها ما
"تُسوّق" نفسها به، سعيًا منها إلى ترسيخ نفسها مؤسسة لها شرعيّة داخل المجتمع، أو للفت الانتباه أو الحصول على تقييماتٍ إيجابيّة. ويحصل، في هذه المناسبات، أيضًا تكريم لطلبة متفوقين علميًا، مع أنّهم ليسوا كذلك، بهدف مغازلة سلطة سياسيّة أو اقتصاديّة ما، وهذا أمر يحصل حتّى في أعرق جامعات العالم. فبالنسبة لإدارة المؤسسة، تخريج طالب على أنه متفوق سيكون مقابله الحصول على امتياز سياسي أو مالي، أمر أهم للمؤسسة من تطبيق المعايير المهنيّة والأخلاقيّة في هذه الحالة. كما نلاحظ تسخير هذا المفهوم لأهدافٍ ثقافيّةٍ كتكريم جامعة إسرائيليّة طالباً عربياً فلسطينياً، لترويج مشهدٍ يدل على التعايش، وتبديد صورة الجامعة الإسرائيليّة باعتبارها جزءاً من المنظومة الاستعماريّة. أو أن تقوم جامعة غربيّة بتكريم طالبةٍ محجّبةٍ على دورها في تنشيط ما يُسمّى الاندماج. أو أن تقوم جامعة ما بتكريم أحد طلبتها فقط كونه يحمل شهرةً داخل المجتمع.
وقد يحيل بعضهم مفهوم التميّز الذي نتحدث عنه إلى عوامل أخرى، كالمشاركة في مسابقة طلابيّة، أو على نشاط الطالب نفسه. لكن حتى هذه العوامل تبقى ضعيفةً، كونها قاصرة عن تقديم إمكانيّات أشمل وأعمق، لتحديد مفهوم الطالب المتميّز. وقد يستغرب بعض الطلبة من اختيارهم أصلًا طلبة متميزين في لقاءٍ أو نشاطٍ ما دون غيرهم من الطلاب، فهم أصلاً لم يضعوا أنفسهم في هذه الفئة التي تعطيهم أفضليّةً ماديّةً أو متخيّلة ما، بل هناك من جاء ووضعهم في هذه الخانة. وضعهم في هذه الخانة يخلق ارتباكًا داخليًا للطالب الذي أول ما يعلم عن اختياره لهذه المهمّة، يبدأ بالتفكير بشأن ما عليه الآن أن يفعل من مسؤوليّة إضافيّة، أو هل عليه أن يتصرف بسلوك آخر ومختلف بعد اختياره؟
وعادة ما يجري انقسام في الخيارات الداخليّة لكل طالبٍ تم اختياره، فهناك من يرتبك في
التصرف، ولا يأخذ موقفاً حاسماً، وهناك، وبكل بساطة، من يرفض وضعه في هذه الخانة، ويستمر سلوكه بشكل اعتيادي. وهناك من تعجبه هذه الصفة الجديدة، ويتفاخر بها، معتبرا إياها اعترافاً رسمياً من المؤسسة بقدراته المميّزة. وهناك من يذهب أكثر في ذلك، ويصبح متواطئًا مع السُلطة، ويلعب دور "المواطن الصالح". هذا المفهوم الذي أنتجته لنا الأنظمة العربيّة، في العقود الأخيرة، في الثقافة العربيّة شكلاً من أشكال علاقة الخضوع والتبعيّة بين النظام السياسي الحاكم والشعب، وهو ليس بعيدًا عن المؤسسات التعليميّة، بل غالبًا ما يبدأ ويتمأسس ثقافيًا في المدرسة والجامعة.
ما ميّز الثورات العربيّة عام 2011 أنّها جاءت كحراك شعبي انتفاضًا ليس فقط على النظام السياسي الحاكم، بل على هذه الثقافة التي أنتجها النظام. لذلك شهدنا ما شهدناه في الميادين والساحات من إنتاج مفهوم آخر للثقافة خارج رؤية السُلطة وأحكامها، الأمر الذي نفقده بشكله المُنظّم وواسع الانتشار كما كان عام 2011، بسبب الثورات المضادّة التي نجحت فيها السلطة بالسيطرة مجددًا على الفضاء العام، من خلال القمع العنيف لقوى الثورة وملاحقتها.
ولعل ما يهمّنا في طرح جدليّة الطالب المميز، في هذا السياق، هو المرحلة العربيّة التي نمر بها والتفكير في المستقبل: هل سنعيد إنتاج المضامين والمفاهيم نفسها التي كرّستها السلطة في الثقافة، ضمن ثنائيّات محدّدة تخدم سلطتها، وتحجب الإمكانيّة على التفكير بشكل مختلف.
لماذا لا نسعى إلى تعزيز مفهوم أن كل طالب هو بالضرورة مميز، والعمل على تشجيع التميّز في المجالات التي يختارها؟ لماذا لا يكون الطلاب أنفسهم شركاء في وضع سياسات متعلّقة بحياتهم في المدرسة أو الجامعة، وفي صياغة مفهوم التميّز؟ لا شك في أن التفكير في سياسات النظام التعليمي العربي الحالي، وإصلاحها حاجّة ملحّة، خصوصًا لدى أي مشروعٍ يحمل على عاتقه مهمة التجديد، ويعد بالمختلف.
ربيع عيد (فيسبوك)
ربيع عيد
صحافي وكاتب من فلسطين؛ مراسل "العربي الجديد" في بريطانيا.