جان كلود سوريل: مهرجان كليرمون فيران انتصارٌ للفيلم القصير

جان كلود سوريل: نلتزم قضايا عامة ضمن شروط مهرجان كليرمون فيران

27 فبراير 2019
جان كلود سوريل: اهتمام بقضايا المجتمع (العربي الجديد)
+ الخط -
بعد 4 عقود من الحضور المتألّق في المشهد السينمائي الدولي، لم يعد هناك شكّ في أنّ "مهرجان كليرمون فيران" الفرنسي أصبح مرجعًا للفيلم القصير في العالم. استطاعت هذه التظاهرة، التي أقيمت دورتها الـ41 بين 1 و9 فبراير/ شباط 2019، فتح نافذة لنوع سينمائي لطالما كان مهمّشًا وغير مُقدَّر، فمنَحته منبرًا لمخاطبة الجمهور، القادم بأعدادٍ كبيرة عامًا تلو آخر، ما يجعل "كليرمون فيران" المهرجان الأول في فرنسا من حيث الايرادات.


من خلال عملهم الحثيث عليه، ساهم القائمون على المهرجان في إخراج الفيلم القصير من عباءة الفيلم الطويل، الذي يملك نجومه وشاشاته وموزّعيه وجمهوره.

في هذه المناسبة، التقت "العربي الجديد" رئيس المهرجان جان كلود سوريل، فتحدّث عن هذا الموعد الثقافي، الذي لم يكن يومًا بمنأى عن الهمّ الاجتماعي، فكيف إذا وصلت الاحتجاجات المطلبية، التي شهدتها فرنسا مؤخّرًا، إلى أبواب الصالات المعتمة.

(*) مهما تكن حاله، فإنّ الطقس لا يمنع المُشاهدين في كليرمون فيران من حضور مهرجانهم المفضّل.
ـ في تاريخه المديد، شهد المهرجان الأنواع كلّها للأحوال الجوية: شمسٌ حارقة أشرقت عام 2011. في العام التالي، انخفضت درجة الحرارة إلى أدنى مستوى. أما عام 2005، فكثافة الثلج منعت الناس من التنقّل في المدينة. عاصفة ثلجية هبّت عشية الافتتاح، فتوقف "الترامواي" عن العمل. يومها، بلغ ارتفاع الثلج عن سطح الأرض 30 سنتميترًا، فاعتقدنا أن كارثة حلّت بنا. لكن، حضر 4500 شخص حفلة الافتتاح في اليوم التالي، حتى أن 400 منهم لم يتمكّنوا من الدخول. الطريف أني عندما وصلتُ يومذاك إلى "بيت الثقافة"، حيث يُقام المهرجان، كان أحد المُشاهدين المخلصين وصل بزلّاجته من البلدة المجاورة.

(*) الجمهور ركن أساسي من أركان المهرجان.
ـ انطلق المهرجان قبل 40 عامًا من خلفية نضالية: الانتصار للفيلم القصير، والترويج له. عام 1979، كان الفيلم القصير بدأ يختفي. صالات السينما التي كانت تعرضه قبل الفيلم الطويل بدأت تستغني عنه لمصلحة الدعايات. بعد 40 عامًا، تغيّرت شروط اللعبة كلّها. لذلك، منذ البداية، وعلى غرار جان فيلار (مؤسّس "مهرجان أفينيون")، التزمنا مبدأين: وضع المُشاهد في قلب المهرجان. هذا مُترجَم بطريقة محدّدة جدًا: المحترفون القادمون إلى "كليرمون فيران" ينتظرون في الطوابير كالآخرين جميعهم. لا فصل بين الجمهور والمحترفين، كحال مهرجانات كثيرة. نحن مع مبدأ الدمج. هذا بالإضافة إلى أن سياستنا بخصوص سعر البطاقة جعلتنا نصل إلى الطبقات الاجتماعية كلّها. لهذا السبب، ترى في "كليرمون فيران" خليط المستويات الاجتماعية والأجيال.

المبدأ الثاني: أنّ نكون متطلّبين بخصوص البرمجة. منذ عام 1983، نتعاون مع المدارس. هذا يجلب 32 ألف طفل إلى المهرجان في كلّ دورة، أصغرهم يبلغ أربعة أعوام. نحاول أن ننقل إليهم "فيروس" (السينما) منذ هذا العمر.


(*) إذًا، للمهرجان مهمة تربوية أيضًا.
ـ طبعًا، وبشكل واسع. هذا يُساهم في تجديد الجمهور، الذي أدهش مستواه الـ"سينيفيلي" سينمائيين كثيرين. أن يجد بعضهم نفسه في "مواجهة" جمهور كهذا، أمرٌ استثنائي. ثم أنّ برمجة أي فيلم هنا تُشكّل منبرًا للمخرج، وتضمن له، غالبًا، جولة عالمية في مهرجانات عديدة. من 3500 محترف يأتون إلى المهرجان، هناك مبرمجو مهرجانات، معظمهم لا يملك إمكانياتنا لمشاهدة عدد الأفلام التي نشاهدها، لاختيار ما نراه الأفضل. ما يفعله هؤلاء هو أنهم يختارون الأفلام التي نختارها.

(*) السياسة، في جانبها الاجتماعي، لم تغب يومًا عن خطابكم.
ـ بين جمهورنا، هناك أناس كثيرون تأثّروا بالأزمة التي تمرّ فيها فرنسا. أجرينا مفاوضات مع بعض مندوبي "السترات الصفر"، لأنهم طلبوا اعتلاء المسرح في الختام، وإلقاء كلمة. علينا إملاء شروطنا عليهم. نريد معرفة ماذا سيقولون، وكم دقيقة سيستغرق كلامهم. لا يُمكن الاستطراد كثيرًا. أساسًا، هذا مهرجان سينمائي.

(*) هل المهرجان منسجم مع طروحات "السترات الصفر"؟
ـ نحن نؤيد النقاش. لسنا دائمًا على الموجة نفسها مع "السترات الصفر". عمومًا، هذه حركة مطلبية، لها مطالب محقّة. لكن، فيها اتجاهات سياسية عديدة، ما يُعقِّد مسألة التضامن الكامل معها. هكذا كان المهرجان دائمًا: لم يكن يومًا لامباليًا تجاه المجتمع وحالات العصيان التي يلجأ إليها. الجمهور عندنا يساري التوّجه، يُبالي بما يحصل في أماكن مختلفة من العالم. نحن راهنّا دائمًا على عطش الجمهور وفضوله. يجب القول أيضًا إن الأفلام القصيرة تتناول التحوّلات كلّها، وتجدها قريبة من الحراك الاجتماعي.

(*) لطالما انخرطتم في النضال الاجتماعي، وربما أكثر ممّا كان ينبغي أحيانًا.
ـ هذا ما نُلام عليه. سبق أن وقعنا في الفخّ: خلال أزمة المياومين عام 2003 مثلاً. لم ندقّق كثيرًا، فتركنا مياومًا يصعد على الخشبة لإلقاء خطاب غير مفهوم، استغرق 20 دقيقة، فأُفسدت السهرة. لاحقًا، اعترف بأنها كارثة. لن نكرّر أخطاء كهذه. لذلك، بتنا نضع شروطًا.

(*) هل انعكست الأزمة في فرنسا على الأفلام القصيرة في برمجة هذا العام؟
ـ لا أعتقد ذلك. حركة "السترات الصفر" شهدت تصعيدًا عندما انتهينا من اختيار الأفلام. لا يوجد أي رابط بين ما نقدّمه وما حصل. ربما في دورة العام المقبل. ما يميّز الأفلام القصيرة عن الطويلة أنها أسرع في تلقّف الحدث، ونقله إلى الشاشة.

(*) كون "كليرمون فيران" أهم مهرجان سينمائي للأفلام القصيرة في العالم، هل تواجهون تحدّيات للمحافظة على هذه المرتبة؟
ـ لا يوجد أي تحدٍّ. ثاني أهم مهرجان للأفلام القصيرة يقع في "بريست"، ونعمل وإياه بروح التعاون. شغلهم يُحترم. لكن عدد مشاهدي كلّ دورة من دوراته تتراوح بين 40 و45 ألف مُشاهد فقط. وعدد المحترفين أقلّ بكثير. لسنا متعجرفين، لكننا نعلم أننا في الصدارة. نحن الوحيدون الذين نتلقّى مجمل ما يُنجز في العالم من أفلام قصيرة. هذا العام واجهنا مشكلة، لأن عدد الأفلام التي تُرسَل إلينا ازداد ألف فيلم. هذا يُتعِب لجنة الاختيار، خصوصًا أن الأفلام تصل إلينا في اللحظة الأخيرة. الدفعة الكبرى من الأفلام تصل بين شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني في كلّ عام.



(*) هل الانتقال إلى الرقمية غيّر شيئًا في عملكم؟
ـ لهذا الانتقال جانب إيجابي للغاية: دمقرطة معدّات التصوير، أي جعلها في متناول الجميع. لكن، في المقابل، نتج من هذه الدمقرطة هراء كثير (ضحك). كلّ شيء في الحياة له وجهان. لذا، نسعى إلى التكيّف مع الوضع المستجدّ.

(*) هل حدث انفتاح على العالم العربي بعد ربيعه؟
ـ لا توجد لديَّ أرقام دقيقة، لكن وصلتنا أفلام عربية كثيرة بعد عام 2011. التطوّرات الاجتماعية التي شهدتها تلك الساحات تُرجِمت في أفلام قصيرة.

(*) سينمائيون مشهورون حاليًا مرّوا سابقًا في "كليرمون فيران"، وعرضوا أفلامهم القصيرة فيه.
ـ جان بيار جونيه أحدهم. كان في لجنة تحكيم إحدى الدورات. سدريك كلابيش، وكريستيان فنسان، وجاين كامبيون، التي فازت لاحقًا بـ"السعفة الذهبية" في مهرجان "كانّ" (الدورة الـ64، المُقامة بين 13 و24 مايو/ أيار 1993، عن "درس البيانو" ـ المحرّر)، بعد مشاركتها في "كليرمون فيران" بأفلامها القصيرة. غيرهم كثر.

(*) كثرٌ من مخرجي الأفلام القصيرة يفشلون عند انتقالهم إلى الفيلم الطويل. هل من سبب في رأيك؟
ـ صحيح. غالبًا ترتبط المسألة بأسباب اقتصادية. تمويل فيلم طويل رحلة شاقة، فيها عثرات كثيرة. يذهب المخرج إلى مموِّل، فيقول له الأخير: "أرغب في مساعدتك، لكن لا توجد في فيلمك وجوه معروفة. ثم ما هذا المشهد الممل!". ينطلق بسيناريو ممتاز، ثم يتعرّض لتعديلات كي يناسب تطلّعات المموّلين. بينما في الفيلم القصير يكون أكثر حرية. رغم ذلك، هناك سينمائيون ينجحون في فرض رؤيتهم.

هناك شيء يجب ألاّ ننساه: الفيلم القصير صعبٌ جدًا، لأنه يأتي من فنّ التكثيف. هذا مهم جدًا

(*) ما هي أكبر البلدان المنتجة للفيلم القصير اليوم؟
ـ بسبب وجود عدد من صناديق الدعم، تبقى فرنسا الدولة الأولى في صناعة الأفلام القصيرة. هناك بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية أيضًا، اللتان تنتجان أفلامًا قصيرة كثيرة، رغم اختلاف ظروف الإنتاج لديهما. ألمانيا لا بأس بها أيضًا. بالإضافة إلى الهند. كلّ عام، نخصّص برنامجًا للقارة الأفريقية، حيث نجد أفلامًا مهمّة.

(*) من خلال تغطيتي المهرجان منذ 12 عامًا، لاحظتُ أنه يصعب جدًا تحديد معايير الاختيار.
ـ يُسعدني أن تتحدّث عن هذا. هذا شيء يزعج كثيرين. بعضهم يلومنا لأننا لا نملك خطًا تحريريًا، ولأن الأشياء تذهب في الاتجاهات كافة. أفهم من شخص يقول كلامًا كهذا أنّه يريدنا اختيار أفلام الأصدقاء. لا شللية في مهرجاننا.

(*) معروف عن كليرمون فيران أنها مدينة مصنع إطارات "ميشلان". هل تتلقّون مساعدات مادية من هذه الشركة الضخمة جدًا؟
ـ نعم، ومنذ عام 2013، لكنها مساعدة متواضعة، تطلّب الحصول عليها وقتًا طويلاً. إدارة الشركة مؤلّفة من مسؤولين يعملون بمنتهى الدقّة. لا مكان للارتجال معهم. لذلك، كان مطلوبًا إيجاد زاوية نتلقّى الدعم بناءً عليها. أول رسالة أرسلتها لهم تضمّنت الآتي: "أنتم مرجع دولي على المستوى الصناعي والاقتصادي، ونحن كذلك على مستوى الفيلم القصير". هكذا وجدنا زاوية التعاون. "ميشلان" متمركزة في البلدان كلّها حول العالم، لكنها ساعدتنا في الفقرة التي تخصّ البلد الضيف. بدأنا بالهند.

هناك سببٌ آخر لتلقّينا الدعم منهم: ذات يوم، أدرك مسؤولو "ميشلان" أن العمّال يتحدّثون في ما بينهم عن الأفلام القصيرة التي يشاهدونها في المهرجان.



(*) سؤال أخير: أي مستقبل تتوقّع لهذا المهرجان، والكلام جارٍ عن نهاية الصالات الوشيكة؟
ـ صحيح أن هناك نمط استهلاك جديدًا للسينما. لكني أعتقد أن العامل الإنساني هو الذي يضمن استمرار الصالات، واستحالة استبدالها. 

سأروي لك حكاية: الناقد الكبير جيل كولبار، المتخصّص بالأفلام القصيرة، شاهد ذات مرة فيلمًا لجاك ميتش في أحد المهرجانات الصغيرة، مع جمهور غير متفاعل، فوجد الفيلم متوسّط القيمة. ثم، عند عرضه في "كليرمون فيران"، شاهده مرة أخرى في "صالة كوكتو"، فصرّح بأنه لم يُشاهد الفيلم نفسه، بسبب ردّ فعل الجمهور. لا يُمكن إغفال هذا الأمر. فهذا يؤكّد أنّه لا بديل للصالة في حياتنا.

المساهمون