Skip to main content
جامع قرية العباسية: شاهد على ذاكرة حاضرة
رامي صايغ ــ يافا
المسجد ما زال مكانه (العربي الجديد)
في الذكرى السبعين لنكبة فلسطين ما زال عددٌ لا بأس به من القرى الفلسطينيّة المهجّرة قائم بمبانيه ومساجده وكنائسه من شمال فلسطين حتى جنوبها، بالرغم من مرّ الزمان والإهمال المتعمّد من قبل السلطات الإسرائيلية المحلية منها والمركزيّة والتي في معظم الحالات تطمس هذه المعالم، خصوصاً في البلدات اليهودية التي بنيت على أراضي القرى الفلسطينية المهجّرة منذ سبعين عاماً وذلك بسبب عدم تواجد السكّان العرب في هذه البلدات، على العكس من المدن الكبرى التي أصبحت مختلطة بالسكان مثل يافا واللد والرملة وحيفا وعكّا وبئر السبع. هناك "تحافظ" السلطات على المباني الصامدة تحت حجّة التجميل والدمج بين القديم التاريخي والجديد الحديث كجزء من إنكار النكبة الفلسطينية وكأنّ أهالي هذه البلاد هاجروا بإرادتهم الصرفة.
أحد المواقع الذي ما زال صامداً شامخاً، هو جامع العباسية المغلق منذ سبعين عاماً. الجامع الذي جمع عبر السنين أهالي قرية العباسية التي اشتهرت بوفرة أراضيها الخصبة مثلها كمثل باقي القرى التابعة لقضاء يافا والرملة، والتي أصبح مصيرها كباقي القرى التي سقطت قبل وبعد إعلان ديفيد بن غوريون في الخامس عشر من مايو/ أيار 1948 إقامة دولة اليهود على أنقاض الأراضي الفلسطينية بقراها ومدنها جمعاء.
نفّذت عصابة "الإرغون" الصهيونية هجوماً على القرية في 13 ديسمبر/ كانون الأول عام 1947. وقد جاء في تاريخ عصابات الهاغاناه أنّ "الإرغون" التي كانت تعمل بالتزامن مع عدة غارات متتالية على المدن والقرى الفلسطينية، تسلّلت إلى القرية في أربع عربات وزرعت عبوات ناسفة قرب عدد من المنازل، ثم عادت أدراجها من حيث أتت. وقد أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنّ عدد القتلى بلغ سبعة، وأنّ سبعة أشخاص آخرين أصيبوا بجروح خطرة. كذلك، أتت على ذكر إصابة خمسة آخرين في الأيام التي تلت. وجاء في التقرير أنّ المهاجمين وعددهم أربعة وعشرون، كانوا متنكرين في زي جنود بريطانيين (مثلما حصل في عمليّة التفجير الإرهابيّة في مبنى السرايا الجديد في يافا) مضيفة أنّهم "أطلقوا النار على اليهود، وفجّروا عدداً من المنازل، ورموا منازل أخرى بالقنابل اليدوية". وكتب مراسل الصحيفة أيضاً أنّ "مجموعة من المهاجمين أطلقت النار على بعض سكان القرية الجالسين أمام مقهى، بينما وضعت مجموعة أخرى منهم قنابل موقوتة بالقرب من بضعة منازل، ورمت بعض القنابل اليدوية لثني باقي السكان عن التدخل". وذكرت صحيفة "فلسطين" أنّ المهاجمين تركوا سيارة مفخّخة في القرية، فانفجرت وأدّت إلى وقوع بعض الإصابات. وورد في رواية الصحيفة أنّ الجنود البريطانيين وصلوا إلى المكان في أثناء حدوث العملية، لكنّهم لم يتدخلوا، إذ إنّ عملهم اقتصر على تطويق القرية تطويقاً جزئياً، وتركوا للمهاجمين طريقاً للهرب من الجهة الشمالية للعباسية. وقد أغارت قوة صهيونية على القرية مرة ثانية في 24 فبراير/ شباط.
باشرت الهاغاناه تنفيذ عملية "حميتس" (الخميرة باللغة العبريّة وذلك بسبب تزامن عيد الفصح العبري مع هذه الهجمات المنظّمة) التي هدفت إلى احتلال بضع قرى إلى الجنوب والشرق من يافا، لتعزل المدينة وتيسر الاستيلاء عليها. كما أنّ عصابة "الإرغون" شنت هجوماً على يافا، بدأ في 25 إبريل/نيسان 1948. وبعد أربعة أيام سيطر لواء "ألكسندروني" الصهيوني التابع للهاغاناه على المنطقة المحيطة بالعباسية في سياق عملية "حميتس". وقد احتلت "الإرغون" القرية في 4 مايو، في إطار الخطة العامة للهاغاناه من أجل طرد السكان الفلسطينيين من المنطقة الساحلية بين تل أبيب ومستعمرة زخرون يعقوب اليهودية الواقعة جنوبي حيفا. وطرد سكان القرية، في أثناء الهجوم الذي وقع يوم 3 مايو. في 13 سبتمبر/ أيلول 1948 طلب رئيس الحكومة الإسرائيليّة دافيد بن غوريون، من حكومته أن توافق على تدمير هذه القرية، لأنّ القوانين التي كانت سنّت حديثاً يومها نصّت على ضرورة موافقة اللجنة الوزارية الخاصّة بالأملاك المهجورة على طلبات تدمير القرى.
من بعد طرد أهالي العباسية، جرى إدخال اليهود الذين قدموا من شمال أفريقيا بدلاً منهم، وباتت العباسية تسمى "يهود" بحسب الدولة العبريّة وتوسّعت البلدة على حساب أراضي القرية المهجّرة التي لم تدمر بالكامل، إذ بقي الجامع مع المئذنة (على العكس من جامع قرية وادي حنين من قضاء الرملة الذي تم هدم مئذنته من قبل الصهاينة الغزاة) لكنّه يستعمل كبيت صلاة لليهود، وبمحاذاته يقع السوق القديم للقرية الذي لم يهدم بل تمّ تغيير جزء من معالمه. كذلك، بقي أحد المقامات الإسلامية من دون المس به (مثل المقام الكائن في قرية سلمة المهجّرة) وبضعة بيوت تسكنها العائلات اليهودية.
بعد عام واحد من تأسيس بلدة "يهود" أقيمت مستعمرة "مغشيميم" شرقي الموقع، وشيّدت "غني يهودا" و"غني تكفا" و"سفيون" في السنوات 1951 و1953 و1954 على التوالي، وقد أقيمت هذه المستعمرات، ومثلها مطار بن غوريون، على أراضٍ تابعة للعباسيّة.