جامعات غزة: فضاء في جيب الحزب الضيق

جامعات غزة: فضاء في جيب الحزب الضيق

05 مايو 2016
(طالبات في جامعة الأقصى، تصوير: محمد عابد)
+ الخط -

منذ عشرة أعوام، حين بدأت الخلافات السياسية بين حركة فتح والسلطة الفلسطينية من جهة، وحركة حماس من جهة أخرى، شهد المجال العام في غزة تغيرات كثيرة، لم يفلت منها المناخ الأكاديمي والبيئة الجامعية.

ربما لم يختلف الأمر كثيراً، فقبل الانقسام الفلسطيني كان معتاداً أن نرى اشتباكاً بالأيدي والحجارة والأسلحة الخفيفة بين الجامعتين المتجاورتين؛ "الأزهر" و"الإسلامية"، أو أن نرى تدخّلاً للأجهزة الأمنية في التعامل مع خلافات داخل الجامعة، سواء بفضها، أو بالانحياز إلى طرف دون الآخر.

مثلاً، في شباط/ فبراير 2007، اقتحمت قوات مسلحة تابعة لجهاز الحرس الرئاسي الجامعة الإسلامية، واعتدت على عدد من موظفيها وأحدثت أضراراً فيها. حتى يومنا هذا، بات من العادي أن نسمع عن مجموعة من الطلبة التابعين لإحدى الكتل الطلابية اعتدوا على أحد كوادر الجامعة، مثلما حدث مع الأستاذ علي النجار، نائب رئيس جامعة الأزهر للشؤون الإدارية والمالية.

حينها، اعتدت مجموعة من الشبيبة الفتحاوية عليه داخل حرم الجامعة؛ ما أدى إلى إصابته برضوض بسبب اختلافهم معه حول سياسة إدارية في الجامعة تخص التسجيل الفصلي. ربما نسمع أيضاً عن مشاجرات بين عناصر كتلة طلابية واحدة، أو بين عناصر من كتل طلابية مختلفة.

لاحقاً، بعد الانقسام وسيطرة حركة حماس الكاملة على غزة، أصبحنا نشاهد عناصر أمنٍ بزيٍ مدني يمشون داخل الحرم الجامعي، وربما تقع عين النظّار على طرف مسدسٍ يبرز من تحت قميص أحدهم.

ربما نسمع أيضاً عن فرض طاقم إداري وأكاديمي جديد؛ مثلما حدث في جامعة الأقصى الحكومية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، يترتب عليه سياسات ولوائح مختلفة، مثل فرض الحجاب منذ سنوات على الطالبات، أو اقتحام كلية الفنون ووضع قيود على عملها.

اعتاد الطلبة أيضاً أن يدخلوا صباحاً إلى الجامعة، ليجدوا مهرجاناً احتفالياً تابعاً لحزبٍ سياسي ما، والذي غالباً ما ينتهي باشتباكٍ مفتعل بين الطلبة، أو حتى اقتحامٍ للحرم الجامعي وإثارة الفزع فيه، واعتقال العديد من الطلبة، أو بإغلاق أبواب الجامعة وتعليق دوامها.

كل تلك المشاهد وما يعقبها من أضرار في المناخ الأكاديمي للجامعة، أثرت على الطلبة والكوادر الأكاديمية، وخلقت لديهم هاجساً أمنياً ورقابياً بشكل مستمر.


فضاء رقابي
في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد"، يقول المحاضِر السابق في "جامعة الأقصى"، خضر محجز: "في غزّة، لا فصل بين السلطة والجامعات، سواء ما كان منها حكومياً، كـ "الأقصى"، أم حزبياً "حماس" كـ "الجامعةِ الإسلامية"، أم خاصاً كـ "الأزهر" و"القدس المفتوحة" واللتين عمليا تخضعان لفصيل فلسطيني هو حركة فتح. هناك نوع من الضغط على هيئات التدريس والمحاضرين".

يوضّح: "تجري مراقبة كل كلمة يقولها المحاضرون، من خلال طلبة موالين لحركة حماس، يقدمون تقارير للإدارة التابعة للحكومة، وهي كذلك تزودهم بما يتوجب عليهم أن يقولوه في تقاريرهم حين يكون محاضر ما مستهدفاً".

يشير محجز إلى وجود وسائل كثيرة للضغط على المحاضرين، غير التقارير؛ "فهناك اللجان الصورية التي يخضع خلالها المحاضرون للتحقيق، في شكاوى كيدية مفتعلة، كتبها طلاب حزبيون أو طالبات، بهدف الانتقام من محاضر لم يمنحهن العلامة اللازمة".

من خلال تجربته، يؤكد محجز أن الجهات الحاكمة "تستغل الطلاب لضرب مصداقية المحاضرين. وربما دفعت بعض الطالبات لاتهام محاضر ما بالتحرش الكلامي بها؛ ما يسيء إلى سمعة المحاضر، ويجعله تحت التهديد دوماً".

في هذا السياق، يقول الأستاذ رائد العطل، والذي عمل محاضراً في "الجامعة الإسلامية" إن الجامعات "باتت فضاءً رقابياً تابعاً للسلطة الحاكمة، وكل جامعة تتبع لفصيل محدد؛ سواء من حيث هيمنته على مجلس الطلبة، أو من حيث مصادر التمويل والإدارة"، مؤكداً أن الجامعة الآن هي "امتداد للأجهزة الأمنية وفضاء رحب للعمل البوليسي، تتم فيه مراقبة الطلبة والمحاضرين لضمان استمرار ولائهم. حتى وصل الأمر إلى مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم".

يصف العطل الجامعات في غزة بأنها "كانتونات أيديولوجية يمارس فيها الإرهاب الفكري على الطلبة والمحاضرين". ويذكر أن في "جامعة الأقصى"، مثلاً، فُصل عدد من الطلاب بسبب منشوراتهم الناقدة للجامعة على صفحات "فيسبوك".

يضيف: "أما في "الجامعة الإسلامية"، فقد تم إيقاف رواتب بعض المحاضرين وإحالتهم إلى لجان تحقيق داخلية بسبب ما يكتبونه من آراء على فيسبوك". يستهجن العطل مستوى الرقابة في الجامعات، ويقول إنها "دخلت القاعات الدراسية، وباتت الأجهزة الأمنية ترسل مندوبين من الطلبة لمراقبة المحاضرين والطلبة والتجسس على ما يتبادلونه من أحاديث".

هنا، يُشار إلى أنه في آذار/ مارس الماضي تناقلت صحف محلية في غزة خبر فصل الأستاذ صلاح جاد الله وإيقافه عن العمل كمحاضر في علوم الأحياء في "الجامعة الإسلامية" بعد كتابته عدة منشورات على صفحته الخاصة على فيسبوك، ينتقد فيها الوضع المعيشي العام في قطاع غزة وبعض سياسات الجامعة.


تبنّي الخطاب الرسمي
من جهته، يذهب الأستاذ حسام أبو ستة في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، إلى الرقابة السلطوية للمناخ الجامعي؛ فمن وجهة نظره، إن الجامعات في قطاع غزة عززت وضخمت الرقابة الذاتية لدى الكثير من الأكاديميين، وباتوا يتعاملون وفق مبدأ "عدم الخروج عن النص".

بالنسبة إلى أبو ستة، فإن هذا "يشير إلى تحوُّل الجامعات من فضاء لتعزيز الوعي والفكري النقدي لدى الطلاب، إلى فضاء يمارس فيه التلقين والتوجيه، متسبباً في تدنّي الوعي السياسي والفكري بشكل عام لدى الطلبة".

هكذا، وفق أبو ستة، فإن الأكاديميين "أصبحوا يفرضون على أنفسهم رقابة ذاتية، ويحاولون التماهي إلى حد كبير مع الموقف السياسي للجامعة والجهة السياسية التي تقف خلفها؛ سواء للحفاظ على مواقعهم، أو من أجل الوصول للمناصب الإدارية العليا في الجامعات"؛ حيث يعتبر الانتماء السياسي عاملاً حاسماً في التوظيف وتقلد المناصب في الجامعة.

يعود الكاتب والناشط في مجال حقوق الإنسان في غزة، مصطفى إبراهيم، إلى فترة ما قبل الانقسام، ويقارنها بما غزة عليه الآن. يقول: "في ظل الانقسام، غابت الحريات الأكاديمية والنقابية. فقبله، كانت تجري الانتخابات بشكل حر وتتنافس الكتل الطلابية وتنتخب مجالس طلاب نقابية، وكانت الحرية الأكاديمية تمارس بشكل طبيعي".

يتابع: "حتى الانتخابات لنقابات العاملين في الجامعات كان تجري وما زالت، لكنها لا تعبر عن واقعها بشكل حقيقي؛ وهي للأسف جزء من التبعية للحزب الحاكم". ويوضّح: "بعد الانقسام، لم تجرِ الانتخابات في جامعات غزة بشكل حر، إنما هي ممنوعة"، معللاً ذلك بالانقسام أو لأسباب سياسية خلافية داخل الحزب أو الحركة نفسها كما هو الحال مع جامعة الأزهر بغزة.

في هذه الأخيرة، ترفض الإدارة إجراء انتخابات، إضافة إلى رفض حركة حماس إقرار التمثيل النسبي للكتل الطلابية؛ ما غيب أي نشاط أكاديمي طلاب، مثل الحركة الوطنية الطلابية التي تدافع عن حقوق الطلاب، وغيّب الحرية الأكاديمية وحرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي، وفتح نقاشات وطنية ومناظرات طلابية ونقاشات ثقافية.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الإعلانات الدولية الخاصة بالحريات الأكاديمية، جاءت لتؤكّد ضرورة استقلال مؤسسات التعليم وإتاحة المجال فيها من أجل توفير مناخ أكاديمي إبداعي حر، للطلبة والمحاضرين، أفراداً أو جماعات، إلا أن خصوصية الوضع السياسي الفلسطيني، لم تترك مجالاً لهذا الاستقلال، فأصبحت المؤسسة الجامعية مصنعاً لإنتاج مريدين للحزب السياسي، أو أفراد ذوي رقابة ذاتية عالية، بأفكار يسيطر عليها الهاجس الأمني.

يذكر "مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان" مجموعة من الانتهاكات في حق الحريات الأكاديمية خلال السنوات السابقة، جاء ذلك في تقاريره الدورية حول حالة الحقوق التعليمية والحريات الأكاديمية في مناطق السلطة الفلسطينية، وكانت معظم الانتهاكات تدور حول اعتداء على الطلبة واعتقالات تعسفية بحقهم، أو اعتداء وضغط على الكوادر الإدارية والأكاديمية للجامعة، وأيضاً تعطيل إجراء انتخابات المجالس الطلابية، ويحمّل المركز حركتي فتح وحماس، بوصفهما قطبي الانقسام السياسي، مسؤولية تحويل الجامعات إلى ساحات للمشادات والمناكفات السياسية.

المساهمون