جائزة نوبل للآداب... الوجه الآخر (1/2)

جائزة نوبل للآداب... الوجه الآخر (1/2)

13 أكتوبر 2019
+ الخط -
قيل إنها لعبة سياسية، ونعتها بعضهم بورقة يانصيب، وربط بعضهم بينها وبين الديناميت فأطلق عليها اسم "متفجرات أدبية" وقيل إنها "سليلة الديناميت والبارود"، كل هذا مع هالة من الغموض المتعمد في حالات كثيرة! إنها حديث الناس سنويًا في أكتوبر/تشرين الأول، إذ تتجه الأنظار صوب استوكهولم، وتشرأب الأعناق لاقتناص جائزة نوبل، لكن وراء الأكمة ما وراءها!

إن فوز النمساوي بيتر هاندكه بنسخة 2019 يحمل الكثير من التفاؤل، مبعث هذا التفاؤل أن هاندكه يعيد للأذهان أسماء عمالقة أضافوا للجائزة وتشرفت بهم، يمكن أن يقف شامخًا إلى جوار غابريل غارسيا ماركيز، أرنست هيمنغواي، أناتول فرانس، جورج برنارد شو والهندي رابندرانات طاغور. لكن الحديث ذو شجون، وقد حملتنا الجائزة لدخول سراديبها والبحث في مطبخ لجنتها، لعلنا نرصد شيئًا أو نؤكد فكرة ما.

قبل أيام من إعلان جائزة نوبل للأدب، لا أحدثك عن 2019 وفوز النمساوي بيتر هاندكه، إنما أعود بك 38 عامًا، إلى سنة 1981، حينها صرَّح السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية وعضو لجنة نوبل، لاري جيلستن، قائلًا "إننا يجب أن نحاول النظر بعين العدل إلى الآداب المكتوبة بلغات العالم الثالث".

بعد هذا التصريح، توقع المهتمون أن تتمرد الجائزة وتنعتق من أحضان القارة العجوز، وأفرط البعض في التفاؤل حتى قيل إن الجائزة من نصيب امرأة، لا سيَّما وأن نصيب المرأة حتى لحظتها ست مرات من 74 جائزة، بل واتجهت الأنظار تجاه الإيرانية الأصل -البريطانية الجنسية- دوريس ليسينغ، لكنما أعلن لاحقًا عن فوز اليهودي الريطاني إلياس كانيتي بالجائزة، وتأجل حصول ليسينغ على الجائزة حتى 2007!


أعمال كانيتي لا تؤهله للفوز بجائزة أدبية كبيرة، لكنها في الوقت نفسه أعمال تدندن على وتر المذكرات التاريخية، وتتناول معاناة اليهود في الأرض، ما يقود إلى حتمية مناصرة اليهود لكانيتي وتلميعه أدبيًا. هنا، يطل سؤال شديد الأهمية مفاده: هل جائزة نوبل منحة أدبية بحتة للمبدعين؟ أم أنها تصبغ صبغة سياسية بالدرجة الأولى؟ لعل فوز كانيتي لا يعطي تأكيدًا بخصوص العوامل السياسية، وأنه قد نال الجائزة وفق معايير أدبية وفكرية محضة، لكنك إن نظرت للعام السابق ولمحت سيرة الفائز بالجائزة عينها؛ فلربما تغيرت نظرتك بدرجة ما.

ويلوح سؤال في الأفق: هل أضاف إلياس كانيتي للجائزة أم أضافت إليه الجائزة؟ والسؤال بطريقةٍ أخرى: هل كان كانيتي أديبًا معروفًا في الأوساط الأدبية قبل الجائزة؟ أم أن شهرته اقتصرت على الأكاديميين وحدهم؟

إجابة هذا السؤال المغلق لا تحتاج كبير عناء، فغالبية الأدباء والمثقفين -ولاحظ أننا لا نقول العوام بل أهل الحرفة وأربابها- لم يعرفوه بعد إعلان فوزه، وعندما طلبت بعض الصحف الإسبانية رأي أعضاء أكاديمية اللغة الإسبانية في كتابات كانيتي، جاء الرد صادمًا إذ قال أعضاء الأكاديمية من كبار الأدباء والنقاد إنهم لا يعرفونه ولم يقرأوا له، ومن ثم فإن تقديم رأي أو إفادة بحقه مستحيلة! وقال رئيس الأكاديمية والشاعر الإسباني الكبير، دامسو ألونسو، في تعليقه "إنني لم أسمع حتَّى بهذا الاسم ولو عفوًا".

وقد تسأل: كيف لرجل عاش متنقلًا بين إنكلترا والنمسا وسويسرا وفرنسا، ويكتب بالألمانية، أن يُسأل عنه في إسبانيا؟! والجواب يسير؛ فأولًا يفترض أن من يحظى بنوبل يملك شهرةً أدبية في الوسط الأدبي، ما يجعل مسحة من سيرته الذاتية أو أعماله معروفة لأهل الأدب وسدنته، وثانيًا فإن كانيتي من مواليد بلغاريا سنة 1906، لعائلة من اليهود السفارديم (تتحدث لغة يهود إسبانيا في القرن 15)، توجب أن ينوَّه به في إسبانيا لا سيَّما وهو يجتر ذكرياته عن معاناة السفاردين.

قبل عامٍ واحد من فوز كانيتي -أي عام 1980- حاز الأديب البولندي (المنشق) تشيلاف ميلوش الجائزة، في السنة نفسها عاشت بولندا على صفيح ساخن، وتفجرت أزمة بولندا والنقابات العمالية، وتمردت بولندا على الشيوعية السوفييتية، زاد الأمر تعقيدًا انتماء البابا يوحنا بولس الثاني لأصول بولندية؛ فطرقت الجائزة أبواب ميلوش لتبارك الانشقاق عن المعسكر الأحمر، وهذا يقدح في نزاهة معايير الجائزة ويثلم سمعتها.

فوز ميلوش أربك المشهد الأدبي، ووصم الجائزة بالتحيز غير المبرر، بل إن جريدة "صندي تايمز" علَّقت على فوز ميلوش بقولها "هل صارت جائزة نوبل تُمنح الآن للمجهولين والنكرات في دنيا الأدب؟ وأنها لم تعد للمشاهير والمعروفين من الروائيين والشعراء والنقاد العالميين؟!" تساؤل يعزز مجهولية ميلوش في الأوساط الأدبية، ويؤكد بدرجة ليست بالهينة التوجه غير المنصف للقائمين عليها في الأكاديمية السويدية.

فاز ميلوش لانشقاقه عن الكتلة الشرقية، وهو السبب نفسه الذي أسهم في فوز باسترناك سنة 1958، بالرغم من أنه لم يكتب إلا عملًا واحدًا "الدكتور زيفاغو"، وللسبب عينه فاز الروائي الروسي المعارض ألكسندر سولجنستين سنة 1970، وبعد ثمانية أعوام من فوز ميلوش؛ سيفوز أديب آخر ويقول إنه تأثر بميلوش، وذلك في نسخة عام 1988؛ إنه الروسي المنشق، جوزيف برودسكي، ما يؤكد أن الحرب بين المعسكرين الشرقي والغربي أسهمت في التلاعب بالجائزة، وأعطتها لمن لا يستحقونها ولأسباب غير أدبية بالمرة.

وناهيك بأن برودسكي ثاني أصغر فائز بالجائزة بعد ألبير كامو (نسخة 1957)، وقد حازها على غير توقع، وبغض الطرف مؤقتًا عن أنه يهودي الأصل أميركي الجنسية؛ فإن اسمه لم يكن مدرجًا على قائمة المرشحين للفوز بالجائزة، وقد جرى العرف أن يكون الفائز ضمن قائمة تشمل 150 اسمًا يُعد لها في نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، ثم تصدر القائمة القصيرة المكوَّنة من خمسة أسماء فقط في يونيو/ حزيران، أي قبل إعلان اسم الفائز بأربعة أشهر -في أكتوبر/تشرين الأول- وفق ما تقتضي الخطوات الفعلية، وهذه نقطة جديرة بالوقوف عندها.
إن لم تُقنعك تلك الإلماعات، وسلمت بأنه ربما فاز كانيتي -ومن قبله ميلوش- لأسباب أدبية فحسب، وأن العوامل السياسية بريئة من التدخل جملةً وتفصيلًا، ومع الشك في هذا الافتراض الساذج، لكن -وعلى سبيل التنزُّل- العودة للخلف خطوة واحدة، أي إلى عام 1979 تشي -دونما أدنى مواربة- بانتزاع الشاعر اليوناني أوديسيو إليتيس الجائزة من قاماتٍ سامقة في دنيا الأدب، وعندما تنعم النظر في المشهد اليوناني يومها؛ فإنك تقف على ركائز تقدح في نزاهة الجائزة المرموقة.

حصل إليتيس على نوبل بُعيد انتخاب كوستاس كارامنليس رئيسًا لجمهورية اليونان، ووضع نهاية للمرحلية الانتقالية التي بدأت سنة 1974، ليس ذلك فحسب، بل إن الأديب اليوناني هولامينيس ريتسوس قد حصل على جائزة لينين سنة 1977، واقتضت الحرب الباردة كسب اليونان في صف المعسكر الغربي؛ فأهدت الحرب الباردة الجائزة إلى أوديسيو إليتيس بعد عامين من فوز أحد أنصار المعسكر الشرقي!

ومع الانحطاف خلفًا ولعام آخر يأخذنا ملمح مشابه؛ ففي سنة 1978 منحت الجائزة للصهيوني الأميركي الجنسية إسحاق باشيفز سينغر اليهودي أيضًا، الذي يكتب بلغة يتحدثها 46 ألف شخص على وجه الأرض! كلهم من اليهود، إذ إن اللغة اليديشية لغة يهودية ميتة، وفي ذلك يقول سينغر "إنني أريد أن أكتب قصص الأشباح، ولا شيء يناسب الأشباح غير اللغة الميتة، كلما كانت اللغة ميتة كان الشبح حاضرًا؛ فالأشباح تحب اليديشية، وبحدود علمي فإن الأشباح تتكلم اليديشية".

أما سنة 1977 فقد فاز الشاعر الإسباني ڤيڤينتي ألكسندر، والمشهد السياسي الإسباني ينتقل من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي حر، وأجريت الانتخابات التشريعية الديمقراطية في يونيو/حزيران 1978، أي قبل أربعة أشهر من إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل، وكان هذا الشاعر من أنصار الديمقراطية الحرة؛ فكأنما أهديت له الجائزة تكريمًا للديمقراطية وليست تكريمًا لشخصه، ما يشير إلى ثُلْمَةٍ في معايير نوبل الأدبية.

باستمرار العودة للخلف، وبمعدل عامٍ واحد كذلك، نجد أن الفائز بالجائزة صهيوني حتى النخاع، وإن كان سيغر مطمورًا مغمورًا لا يعرفه أحد؛ فإن صاحب نسخة نوبل لعام 1976 معروف في الأوساط الأدبية والثقافية بدفاعه المستميت عن الصهيونية؛ إنه شاؤول بيلو. ثم لنقفز قفزة أخرى للخلف، وبمعدل أكبر قليلًا لنصل إلى عام 1965، وفوز على غير العادة على الإطلاق، إنه تكريم لأحد أنصار الكتلة الشرقية! هل تتخيل أن يجري ذلك يومًا؟
لقد كان، لكنك ستقمع الدهشة سريعًا حين تلملم خيوط الحيثيات، إذ قبلها بعامٍ واحد رفض الفرنسي جان بول سارتر الجائزة، ووبخ القائمين عليها لتجاهل الاتحاد السوفييتي، وأنهم يوم حاولوا تكريم أحد أدباء الاتحاد السوفييتي، اختاروا رجلًا منبوذًا في أرضه وبين أهله، وتجاهلوا رموز الأدب الكبار. يومها قصد سارتر خلع الجائزة على بوريس باسترناك سنة 1958، وقد رفض الجائزة بضغوط سوفييتية، لكن ابنه تسلمها من الأكاديمية السويسرية سنة 1989.

لم تتوقع الأكاديمية رفض سارتر لجائزتها، ما أحدث دويًّا هائلًا في أروقة اللجنة، وقررت استوكهولم أن تبتسم ابتسامة صفراء للكتلة الشرقية؛ فمنحت الجائزة -وفي العام الموالي مباشرة، سنة 1965- للأديب الروسي ميخائيل شولوخوف، وفي نص التكريم قالت اللجنة "لقد جاء التقدير متأخرًا بعض الشيء، لكن ليس أكثر مما ينبغي، وهذا من حسن الطالع، وليضاف إلى قائمة الفائزين بالجائزة اسم من أبرز كتاب عصرنا". بهذا يكون شولوخوف ثالث أدباء الروس فوزًا بالجائزة، بعد إيفان بوتين (1933)، وبوريس باسترناك (1958).

إن أدرت الفكر في مسألة فوز باسترناك مثلًا؛ فإنك تجد فوزه الجائزة لاعتبارات لا تقبل الشك؛ فإن روسيا قد رشحت شولوخوف رسميًا للفوز بالجائزة، ومع ذلك دوّى اسم باسترناك كالطبل في المحافل الأكاديمية والأدبية -نكاية في الكتلة الشرقية- بعد روايته "الدكتور زيفاغو"، وأُعلن فوزه بالجائزة، وقابل باسترناك فوزه بسعادة غامرة، لكنه عدل عن رأيه بعد يومين فقط، لا سيَّما بعد أن منعته الحكومة من السفر إلى ستوكهولم واستلام الجائزة. لم تنشر رواية باسترناك في روسيا إلا سنة 1988، وتسلم ابنه الجائزة بعدها بعام.

لم يكن فوز شولوخوف بإجماع اللجنة، فضلًا عن أن العام الموالي حمل مفاجأة أخرى، مفاجأة ربما هدفت إلى ترضية اليهود، إذ منحت نسخة 1966 من الجائزة لأديبين يهوديين؛ صامويل جوزيف أغنون والكاتبة نيلي زاكس الداعية للفكر الصهيوني بطريقة بكائية. ثم ما معنى أن يفوز ونستون تشرشل بالجائزة؟ فالرجل السياسي حصد الجائزة بعد أن كتب مذكراته، ولا يملك أسلوبًا أدبيًا ولا رصيدًا من الثقافة الأدبية، كل رصيده وحقل خبراته سياسي بحت.