جائحة كورونا وتعافي كوكب الأرض

جائحة كورونا وتعافي كوكب الأرض

27 مايو 2020
+ الخط -
غدا كوكب الأرض كوكبًا منكوبًا جراء النشاط البشري غير المسؤول خلال العقود الأخيرة، والذي خلف تلوثًا بيئيًا ربما يكون غير مسبوق في تاريخ البشرية، لدرجة أنه بات يهدد الحياة على ظهر الأرض، وجاء فيروس كورونا ذلك الكائن المجهري ليمنح كوكب الأرض الفرصة لالتقاط أنفاسه والتعافي ولو جزئيًا من الأمراض التي أصابته وكادت أن تفتك به.

والمتفائلون -وأنا منهم- ينظرون دائمًا للجوانب الإيجابية في جميع الأمور والأحداث وإلى النصف الملآن من الكوب، ويعتقدون أن في طي كل محنة يتعرض لها البشر منحة إلهية ينبغي الالتفات إليها وأخذ العبرة منها، وفي الذكر الحكيم: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ". (سورة البقرة 216).

والمثل السائر يقول:"رب ضارة نافعة" وهذا المثل ينطبق على جائحة كورونا التي خلفت مضار كثيرة كوفاة مئات الآلاف من البشر حول العالم والمخاطر التي تهدد حياة الملايين منهم، وتركت مخاطر جمة على الاقتصاد العالمي.

وفي مقابل تلك المضار والمخاطر كانت هناك فوائد لفيروس كورونا على مستوى البيئة التي تضررت كثيرًا، خلال العقود القليلة الماضية نتيجة الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية والمعدلات المخيفة للتلوث البيئي بأنواعه المختلفة كتلوث الهواء والماء والتربة.


وهذه الجائحة وأمثالها تلفت انتباهنا إلى الحكمة الإلهية الكامنة في الكوارث الطبيعية والأوبئة وغيرها والتي تنتشر ما بين فترة وأخرى، وقد تحدث الدكتور مصطفى محمود -رحمه الله- عن عدد من الأمثلة للكوارث الطبيعية والبشرية التي كانت فتحًا في مجالات كالطب والصناعة وغيرها، وقال إنه لا يوجد شر مطلق في هذا الكون، ويقول: "أعظم الاختراعات خرجت أثناء الحروب مثل: البنسلين، والذرة، والصواريخ، والطائرات النفاثة.. كلها خرجت من أتون الحروب، ومن سم الثعبان يخرج الترياق، ومن الميكروب نصنع اللقاح".

ونحن كمسلمين نعتقد أن فيروس كورونا هو جند من جنود الله، يقول الله عز وجل: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ". (سورة المدثر 31).

ونعلم أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء من عباده، وهو ابتلاء للمؤمنين وللناس جميعًا لكي يعودوا إلى ربهم، يقول الله عز وجل: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ". (سورة الروم 41).

وظهور هذا الفيروس وانتشاره الواسع فتح الآفاق أمام تصورات كثيرة لمستقبل الناس على كوكب الأرض، ومن هذه التصورات بل ومن أهمها على الإطلاق ما يتعلق بالبيئة والمخاطر المحدقة بها نتيجة النشاط الإنساني المدمر والثورة الصناعية والتقنية التي ازدهرت على حساب البيئة.

وهناك جملة من الأسباب أدت إلى ظهور فكرة التنمية المستدامة وتبنيها من قبل الأمم المتحدة والعديد من دول العالم، وهي: قطع الغابات، وتدهور الأرض والتصحر، والمعدلات الخطيرة لفقدان التنوع البيولوجي، وتخلخل الأوزون في طبقة الأستراتوسفير، ومخاطر التغير المناخي، وتعاظم تراكم النفايات وخاصة النفايات الخطرة والإلكترونية، واستنزاف المعادن، والإسراف في استهلاك المياه.

والفرصة التي منحها فيروس كورونا لكوكب الأرض للتعافي تمثلت بشكل رئيسي في الحد من الأنشطة البشرية المهددة للتوازن البيئي والملوثة للبيئة، والحظ الأوفر من التعافي كان من نصيب طبقة الأوزون التي تعرضت للتآكل والتدمير نتيجة الزيادة المفرطة في استخدام وسائط التبريد والتكييف التي تعمل على استنفاد وتدمير هذه الطبقة التي تحمي الإنسان من أشعة الشمس الضاره التي تسبب سرطان الجلد، وإعتام عدسة العين، وإتلاف المحاصيل، وتدمير الحياة البحرية، وقد شاركت كمدرب مؤخرًا في تقديم دورة تدريبية حول المواد المستنفدة لطبقة الأوزون.

وآثار فيروس كورونا انعكست على مشكلة التغير المناخي بطريقيتن: عطلت انعقاد مؤتمر "COP26"، وأسهمت بنذر يسير في الجهود العالمية الرامية للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، ومحاولة خفض الاحترار العالمي بنحو 1.5 درجة مئوية.

والأثر الأبرز لفيروس كورونا كان الحد من تلوث الهواء على مستوى العالم، فالحجر المنزلي أدى إلى تقليص حركة المركبات على الطرقات، وإلى الحد من الملوثات البيئية التي تطلقها، وتوقف الكثير من الأنشطة الصناعية قلل من الانبعاثات الغازية التي تُسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وتشير تقديرات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ستقل بنسبة تتراوح ما بين 6-8% خلال هذا العام.

والانتشار الواسع لفيروس كورونا كان له الفضل في الحد من استهلاك الموارد الطبيعية والسماح بتجددها، وأعطى الفرصة للعديد من الكائنات الحية لكي تنمو وتتكاثر وتحافظ على وجودها الذي بات مهددًا بفعل النشاط البشري.

وجائحة كورونا حملت معها العديد من الرسائل للبشرية، فانتشار ذلك الفيروس يُعد فرصة لكي يراجع الإنسان نفسه، ويعرف حجمه الحقيقي في هذا الكون، وأنه مخلوق ضعيف وليس سيدًا للكون يتصرف فيه كما يشاء.

وهذه الجائحة فرصة لكي يُعيد الإنسان النظر في أنشطته المدمرة لكوكب الأرض، وأن يراعي البعد البيئي في أنشطته المختلفة وبخاصة الصناعية منها، وأن يسعى لإيجاد وسائل وحلول وبدائل تقلل من التلوث البيئي.

ومن الرسائل المهمة لجائحة كورونا أهمية حماية البيئة والمحافظة على الموارد الطبيعية، وحماية حقوق الأجيال القادمة في هذه الموارد.

وما نجح فيه فيروس كورونا هو أنه ضغط على مكابح العربة الطائشة التي يقودها الإنسان المعاصر، واستطاع أن يمنعها -ولو بصفة مؤقتة- من الانزلاق نحو الهاوية، والسؤال المطروح الآن هو: هل سيعيد البشر حساباتهم تجاه البيئة ويسعون من أجل المحافظة عليها، أم سيتمادون في غيهم ويستمرون في تلويث البيئة واستنزاف الموارد الطبيعية بصورة تهدد الوجود الإنساني والحياة على كوكب الأرض؟

دلالات