إن عودة إلى عقود طويلة مضت على البلدين، بل على المنطقة عموماً، أي إلى مطلع خمسينيات القرن الماضي وطوال ستينياته، تُسلّط الضوء على أصول معظم الأنظمة الحاكمة التي تتعرّض
اليوم لهزّات عميقة ومتوقعة، فمنذ ذلك التاريخ أخذت الانقلابات العسكرية تتوالى في أغلب البلدان العربية، وأكثرها قرباً من إسرائيل، وقد أتت جميعها في أعقاب نكبة فلسطين تحت اسم ثوراتٍ عربية، رفع قادتها شعاراتٍ تتضمن التحرير والتوحيد، وكل ما كانت تأمله المنطقة من حاجاتٍ سياسيةٍ واجتماعية. وتلعن تلك القيادات كلَّ من سبقها من حكام وطبقات سياسية، متهمة إياها بالعمالة والخيانة والضلوع في تضييع فلسطين، على الرغم من أن بعضها كان سائراً، على نحو أو آخر، باتجاه النهوض على الصعيدين، الوطني والاجتماعي. وتحت ضجيج الشعارات ولهيبها، جرى تجييش المنطقة، وعسكرتها، وتسليحها، وغلب شعار "كل شيء للمعركة" إلى درجة أن تحرير فلسطين صار في مخيلة الجميع قاب قوسين أو أدنى، إضافة إلى أنَّ أولئك القادة، ومن سار في ركابهم من أحزاب وأفراد ومنظِّرين، وعلى ما بينهم من تباينات، قد قاربوا بشعاراتهم، وإنْ بحدود معينة، ما كان قد طرحه رواد النهضة العربية، وتعلقت بهم جماهير العرب وزادها رغبةً وأملاً ظهور الاتحاد السوفييتي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية منتصراً ورافعاً شعار حق الشعوب في تقرير مصيرها، لتأتي بعد ذلك حرب 1967 صفعةً قويةً ودرساً بليغاً كان يمكن الاستفادة منه في إدراك طبيعة الهوّة الكبيرة بين واقعنا وما نصبو إليه، والسعي إلى ردمها. ولكن بدلاً من فعل ذلك بإدراك ألف باء النهوض، واللحاق بركب الحضارة علماً وتكنولوجيا وانفتاحاً على العالم المتقدِّم ازدادت العسكرة عنفاً، وتوجهت نحو الشعب قمعاً وتضييقاً وتغييباً لأية ردود فعل. وتأتي حرب 1973 التي حُضِّر لها جيداً لاستعادة كرامة الأمة المهدورة، فكانت كارثة حقيقية أخرى، زادت من تمكين أقطاب العسكرة الذين عدّوها نصراً ليستمروا في القمع، وفي الاستفادة من منح بلاد البترودولار، ولتفتح أبواب البلاد واسعة أمام الفساد والإفساد وإفقار الشعب، وليغلق ملف القضية الفلسطينية (عربياً على الأقل) ويجري الصمت عن الجولان وفق اتفاقية الفصل بين القوات.
في ذلك الوقت من منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان نمو الحركة الوطنية تحت زخم الشعارات إياها، في عدد من البلدان العربية وتقاطعها جميعاً على الأرض اللبنانية التي احتضنت آنذاك منظمة التحرير الفلسطينية، وانطلاق العمل الفدائي ويقظة الحركة الوطنية اللبنانية، ثم في وقت انشغل فيه العراق بحربه مع إيران، وبروز صراع خفيّ بين جناحي حزب البعث في سورية والعراق تحت اسم يمين ويسار، ولتغدو منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية التي أخذت تشكل فصائل مقاومتها هدفاً إسرائيلياً يهدد تلك الأنظمة القمعية فيما إذا استمرت بشعاراتها. وبمساعدة بعض دول المنطقة، يعمل الجيش السوري شرطياً في لبنان لتقوم تحت إشرافه مذابح مخيم تل الزعتر، رافقت ذلك عمليات اغتيال شخصيات وطنية لبنانية عديدة، وأعطي حزب الله المنفصل عن حركة أمل بإرادة إيرانية توكيلاً حصرياً بـ"المقاومة"، وجرى ترحيل منظمة التحرير ليغيب مع ابتعادها العمل الفدائي، ولتأخذ تلك الأنظمة القمعية توقيعاً على بياض لتفعل بشعوبها الويلات، ويسقط الاتحاد السوفييتي ويغزو النظام العراقي الكويت ليفسح في المجال لحرب دولية ضده، شارك فيها العرب، ثم يأتي الغزو الأميركي مستقدماً معه عملاءه الديمقراطيين، ليمارسوا ديمقراطية الفساد، ويذيقوا شعب العراق ما لم يذقه من قبل (قُدّرت أموال العراق المنهوبة والمودعة في البنوك الأميركية بـ 583 مليار دولار. ووصف النائب العراقي، مشعان الجبوري، الطبقة الحاكمة بالفساد والرشوة، ولم يستثنِ نفسه، إذ قال مبرّراً أخذه كم مليون دولار إنه ضحك على الراشي، من دون أن يساعده بشيء).
على تلك الأرضية، أرضية الهزائم والخنوع، ترسّخت تلك الأنظمة، وتعمّق استبدادها، فعملت
على تقسيم المجتمع الواحد، مستفيدةً من القاعدة الاستعمارية المعروفة "فرّق تسد"، فكان إحياء الطائفية البغيضة، والعودة إلى القبلية والعشائرية والتمييز الحزبي وإعطاء المقرّبين مزايا خاصة للإثراء السريع والمقونن، ولتصعد برجوازية طفيلية لا وطنية، لتتعاون أو تشارك حاميتها البيروقراطية الحاكمة، ولتشارك في بعض الدول الحاكم نفسه، أو تدير أمواله مباشرة، ودونما وسيط، كما هو الحال في سورية، ويزداد فقر الشعب فتتضاعف النقمة على الحكومات، مع تفتح أعين جيل الشباب على عالم آخر مع ثورتي الاتصالات والمعلوماتية، ويترسّخ في وعيه مفهوم الدولة، ووظيفة الحاكم، وهو الذي يعاني الفقر وإغلاق الأفق، لا أمام عيشه فحسب، بل أمام تفتح إبداعه.
اليوم، وعلى الرغم من مجابهة شباب العراق الثائر بالرصاص الحي، وعلى الرغم من تجاوز عدد القتلى الـثلاثمائة وآلاف الجرحى، وعلى الرغم من أن اللبنانيين لا يملكون سوى الضحك والفن يعبّرون من خلاله عن ضيقهم بسبل عيشهم وبحكامهم، نرى تأكيد الثورتين لهويتهما الوطنية وانتمائهما العربي، وإصرارهما على المضي بصدور عارية، رافعين العلم الوطني لبلديهما، رافضين الطائفية والتدخل الأجنبي، متأكدين من شعاراتهم الملموسة التي تعلن الانتقال إلى مرحلةٍ جديدة، تسودها ديمقراطية عادلة، يستعيد معها الشعب زمام أمره، ليذهب نحو حريته وكرامته وبناء دولته الحضارية المأمولة.
قد يكون الطريق صعباً وممتلئاً بالعثرات، ولكنها الثورات والمراحل التاريخية المفصلية، وأشكالها المتعدّدة. وإذا كان قدر سورية أن تعطي الدرس قاسياً، فإن تجربتَيْ لبنان والعراق، وقبلهما تجارب تونس والسودان والجزائر، ترسّخ جميعها معالم المرحلة الجديدة المقبلة.