ثورة الندوب

ثورة الندوب

10 ديسمبر 2019
+ الخط -
لا أستطيع حتى اللحظة نسيان ذاك الخميس المشؤوم في سراقب، المصادف 28 أغسطس/ آب 2014، أودّ أن أمحي هذا التاريخ من ذاكرتي تماماً، كما كل الأيام التي قصفنا فيها طيران النظام السوري.

ما زلت عاجزةً عن فهم لمَ نُقصف! أوليسَ الله مع الصابرين؟ لمَ لا تسمعنا يا الله، هل طردتنا جميعاً من رحمتك؟ أنا أعلم أنك تسمعني الآن يا رب، ولن تطلب مني أن أعاتبك، لأني أحبك، لأنّك الله الذي أرى ابتسامته كلما نظرت إلى السماء الممتدة من جبل السماق حتى جبل الأربعين، لست الله الأسود الذي طبعوه على اللافتات الطرقية الممتدة من جبل الزاوية حتى معبر باب الهوى، لا، لست أنت الذي يهللون باسمك عند ذبح كل ابن آدم، أم أنّ في الحياة إلهين، فالله الذي أعرفهُ لا يشبه الله خاصتهم.

في ذاك الخميس، كانت حصيلة القصف أربعة شهداء، وشهيدتين، كما أدى القصف إلى احتراق طفلٍ رضيعٍ حتى التفحّم، ودمار البيوت وإصابة هدى بحروقٍ بليغة، وأختها ليلى بحروق متوسطة.


والد هدى، عاملُ بناءٍ، اعتُقل في الأشهر الأولى من الثورة على حاجز "المحريب" في مدينة إدلب، أما زوجته، فهي امرأة تقليدية، تقتات على أجور البناء التي يجنيها زوجها، هي وبناتها الثلاث وابنها الوحيد. لم يبقَ لهذه العائلة شيء سوى مخيمات أطمة، حيث تنتظرهم خيمة، وكرتونة إغاثة من المنظمات الدولية.

محزنٌ كيف تحوّلت قضيتنا العادلة إلى خيمة وسلَة إغاثة، في حرف مسار القضية، لا يقلُ صمت المجتمع الدولي جرماً عن فظائع بشار الأسد. بعد القصف، أُسعفت هدى وليلى إلى المشفى الميداني قرب بلدة أطمة أو قطمة كما يطلق عليها موظفو الأمم المتحدة، الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء حفظ أسماء قرانا وبلداتنا. مضت الأشهر الأولى في المخيم، وبدأت حروق الطفلتين بالتحسن ببطء شديد، تاركةً تشوهات عميقة في وجهيها وجسديها، ثم أُجبرت والدتهما على التوقف عن العلاج، لأن تكاليفه مرتفعة.

في مارس/ آذار 2015، جاء شيخٌ سعوديٌ مسنٌ يدعى "أبو عبد الله"، يعمل في الدعوة، لزيارة أم هدى بكونها أرملة، واستأذن الأم بأن يرقي حروق ابنتها علّها تتحسن بسرعة. خلال الرقية، لاحظت أم هدى أن الشيخ يمرر يده مجيئاً وذهاباً فوق ثديي هدى اللذين بدءآ للتو بالبروز، لذلك انتظرته حتى ذهب، وأحضرت شالاً، وشدّته حول محيط صدر هدى، كي يُمسح الثديان تماماً، ويظن كل من يراها أنها ما زالت طفلة.

بعد ذلك، طلب المسن من الأم أن تزوجه هدى. في البداية رفضت الأم، إلّا أن أبا عبد الله، وعدها بعلاج هدى في مشفى الملك في السعودية، وأنّه سيدفعُ لها مائة ألف ليرة سورية (أي قرابة أربعمئة دولار) مهراً!

طلبت أم هدى مهلةً للتفكير، وأمهلها أبو عبد الله حتى صباح اليوم التالي. انتهت المهلة ووافقت أم هدى، وقام أبو عبد الله بتفصيل كرسي خشبي على شكل زهرة، تيمناً بما قرأه عن البابليين على ما يبدو، وطلبَ من الأمّ أن تعلمّ ابنتها الرقص عاريةً فوق الكرسي. في صباح اليوم التالي، استفاق المخيم على عبارة أنّ الشيخ "شقّ" هدى نصفين، وتم إسعافها للمشفى، حيث أخبرها الطبيب أن الوفاة كانت بسبب تمزق جدار المهبل، إمّا بسبب الممارسة الوحشية، أو نتيجة استخدام إصبع وآلة حادة لإزالة غشاء البكارة.

طلب منها الطبيب اسم الزوج، ليتم إبلاغ الشرطة الحرة وتوقيفه، إلا أنها لم تكن تعرف عنه إلّا أنه "أبو عبد الله" من السعودية. عادت أم هدى إلى الخيمة، بعد أن دفنت ابنتها، وجال بخاطرها أن تُضرمَ النار بالخيمة كي تموت هي وأطفالها، لكنّ الخوف من غضب الله منعها.

لم يرَ أحدٌ بعدها أبا عبد الله، وعلمت أم هدى لاحقاً أن ذات الرجل تزوج العديد من القاصرات من مخيمات أخرى، كالكرامة، وأم المؤمنين والأوسط، ثم طلقهن دونَ أن يُحاسب، فقد كان على علاقةٍ جيدةٍ بـ"مجاهدي" المنطقة.

بعد أسبوعٍ من الجريمة، أخرجت أم هدى المهر من "الصرة" القماشية المحشوة داخل وسادة نومها، واصطحبت ليلى إلى طبيبٍ جلدي في بلدة الدانا، من أجل إكمال العلاج، فيكفيها ألماً الحرق الذي في قلبها، ولا تُريدُ لليلى أن تلقى مصيرَ أختها لأنها "محروقة".

هكذا تعيش النساء في مجتمع إدلب، محروقاتٍ مطروداتٍ من الحياة والرحمة في كل الأوقات. ثمة ثورة خاصة بنا، تسير جنباً إلى جنب مع ثورة البقية، لكنّها أشدّ إيلاماً، لأنها تثور على حروق الذاكرة، إنها ثورة الندوب.
CD7FA5C9-C0F0-4D5C-BA96-E0E74CC15275
هبة عز الدين

أحمل شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، وحاليا أدرس الدكتوراه. نسوية.. أعمل في مجال حقوق الإنسان، وأكتب في العديد من المواقع.

مدونات أخرى