ثورة السودان بين عسكر وتكنوقراط

ثورة السودان بين عسكر وتكنوقراط

13 سبتمبر 2020
+ الخط -

(1)
مع مرور الأيام والأسابيع، يكاد يتراجع عنفوان الثورة التي اندلعت في السودان في 18 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، وأطاحت نظام عمر البشير الذي جثم ثلاثين عاما على صدور السودانيين. والملاحظ أنه ما أن تمضي الحكومة في تنفيذ برنامجها الانتقالي وفق الوثيقة الدستورية التي توافقت عليها قوى الثورة السودانية، بمدنييها وعسكرييها، إلا ويتصدّع المشهد السياسي، تأرجحاً بين إيجابيات تُنجز وسلبيات تُكبَح. ثمّة تحدياتٌ ذات أبعاد خارجية لم تصنعها الحكومة الانتقالية، ولكنها تتصل بتركة خلفها النظام المباد، بكل مخازيه ومفاسده، كما تتصل بجملة تحدّياتٍ ليس لتلك الحكومة الانتقالية يدٌ فيها، مثل جائحة كورونا التي اجتاحت العالم بأكمله، وأحدث انتشارها تحولات حاسمة في شكل الحياة، أو ذلك التحدي المتصل بإبقاء السودان في القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، ما تتعثر معه جهود إدماج السودان عضواً فاعلاً ومتعاوناً مع أطراف المجتمع الدولي.
(2)
ثمّة عقبات داخلية ماثلة، بل هي منغّصات أكثر منها تحدّيات، لم تكن في الحسبان، أحدثت إرباكاً في أداء الحكومة الانتقالية. يعزو بعضُ المراقبين ذلك الإرباك إلى ضعف التوافق الهشّ الذي حققته شراكةٌ، أرادتها جميع الأطراف أن تكون ذكيةً برعاية الاتحاد الأفريقي والجار الإثيوبي الذي لعب دور العرّاب بين المكوّنين، المدني والعسكري، فصيغت معادلة لهياكل الحكم تولى بموجبها مجلسٌ يمثل السيادة ومجلس آخر من الوزراء لإدارة البلاد. مع مضي الأيام، بدا واضحاً أن أقدام الحكومة الانتقالية تسير على حقلٍ مليء بألغام دفينة. وهي حكومة انتقالية مطالبةٌ بإزالة فساد النظام المباد، كما عليها، في الوقت نفسه، إصلاح الخراب الاقتصادي وانهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية. ذلك كله والضائقة المعيشية تمسك بخناق المواطن السوداني، وتطحنه طحنا، وهو يرى الفاسدين والمخرّبين ما زالوا يمشون بين الناس في الأسواق، كما تحفل بهم مكاتب الدولة ودواوينها.
(3) 
أثقلتْ الوثيقة الدستورية كاهل حكومة الانتقال بملفٍ غاية في التعقيد، إحلال السلام في ربوع البلاد، وجراحاتها لم تبرأ بعد في مناطق الصراعات في دارفور والنيل الأزرق وكردفان. حين زار وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، الخرطوم، ليبحث رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وحثها على التطبيع مع إسرائيل، قيل له إن ملف التطبيع تعالجه حكومة منتخبة من شعبها، لا حكومة انتقالية محدودة الصلاحيات. يتساءل بعضهم إن كانت الحكومة الانتقالية ملكت صلاحيات ملف السلام الداخلي، أما كان لتلك الصلاحيات أن تشمل معالجة ملف السلام الخارجي، ومن موضوعاته قائمة الإرهاب والتطبيع، فالسلام الشامل داخلياً أو خارجياً لا يتجزأ، إن كان يستهدف تحقيق الاستقرار المنشود؟

ثمّة تحدياتٌ ذات أبعاد خارجية لم تصنعها الحكومة الانتقالية، ولكنها تتصل بتركة خلفها النظام المباد، بكل مخازيه ومفاسده

كان الأنسب، بداية، أن توكل الوثيقة الدستورية للحكومة الانتقالية مهمة وقف القتال مؤقتاً فحسب، لا التفاوض لتحقيق سلام أشمل، فهذا ينبغي أن تكلف بمعالجته حكومة ومجلس تشريعي منتخبان من الشعب. على الرغم من ذلك، اجتهدت الحكومة الانتقالية في تفاوض مضنٍ، تعثر فترات طويلة مع التنظيمات والحركات المسلحة في المناطق الثلاث. ولعلك تعجب من أن ترى الوسيط في هذا التفاوض لم يكن في الخرطوم، بل في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان التي انسلخت عن الوطن الأم، بعد استفتاءٍ في عام 2011، كسبه الانفصاليون، فأنشأوا هذه الدولة. والآن هم الوسطاء الجدد بين الحكومة الانتقالية والتنظيمات المسلحة التي ظلت تقاتل الخرطوم، وبعضها يطرح مبدأ حق تقرير المصير..! 
(4)
من تحدّياتٍ عديدة واجهت الحكومة الانتقالية، وهي تنهي عامها الأول من عمرها، تحدّيات أحدثتها الطبيعة، أولها جائحة كورونا، مع ضعف الإمكانات الطبية في بلادٍ شاسعة المساحة ومتعدّدة المجتمعات والثقافات. وأكملت الطبيعة كرمها، فأغدقت سيولاً وأمطارا فاقمت من عجز الحكومة الانتقالية في التغلب على تحدّي الفيضان والكوارث التي أحدثها. اضطرب أداء الحكومة الانتقالية في مجالات عديدة، منها العلاقات الخارجية والصحية والتجارية، وإدارة الموارد النفطية والمائية، وذلك ما استوجب أن يعيد رئيس هذه الحكومة، عبدالله حمدوك، النظر في بنية فريق التكنوقراط الذي توافق عليه كلٌ من حاضن الثورة وممثل مكوّنها السياسي المدني، المسمّى "قوى الحرية والتغيير"، والمجلس السيادي الذي يشارك فيه المكون العسكري من جهة ثانية، ثمّ رئيس وزراء الحكومة الانتقالية من جهة ثالثة.
(5)
إزاء هذا الاضطراب في مجابهة تلك التحديات الجسيمة، تتداخل الصلاحيات بين المجلس السيادي والحكومة الانتقالية، فيذهب رئيس المجلس السيادي، الفريق عبد الفتاح البرهان إلى أوغندا في زيارة شبه سرية يلتقي فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من دون أن يُعلم رئيس وزراء حكومته بالزيارة، بحكم الاختصاص، وبحكم أن نتنياهو هو رصيف رئيس وزراء السودان. ولإحداث مزيد من البلبلة، تعلن تل أبيب عن الزيارة، لا الخرطوم، فيتسبب ذلك في أزمةٍ بين رئيسي المجلس السيادي والحكومة الانتقالية.

كان الأنسب أن توكل الوثيقة الدستورية للحكومة الانتقالية مهمة وقف القتال مؤقتاً فحسب، لا التفاوض لتحقيق سلام أشمل

غير أن هذا الارتباك الذي وقع نتيجة تلك الزيارة فتح ملفاً يتصل بخيار تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، إذ نفت وزارة الخارجية أي علاقةٍ لها بذلك الملف. وقد كشف تضارب الصلاحيات بين المجلسين، السيادي والوزاري، بوضوح، هشاشة العلاقة بين المكوّنين، المدني والعسكري، وأن تلك الضبابية ستبقى لغماً دفيناً يمكن أن ينفجر في أي لحظة، خصوصا أن أطرافاً إسرائيلية لا تكفَّ عن ترديد أن اتصالاتٍ تُجرى في السر بينهم والخرطوم، وذلك ممّا يحدث إرباكاً مضاعفاً في الساحة الداخلية في السودان.
(6)
من التحدّيات التي أحدثتْ بعضَ إرباك واضطرابٍ في علاقة المكونين، العسكري والمدني، مسألة حسّاسة تتصل بمحاكمة رموز نظام "الإنقاذ" المُباد، وفيهم من أعلنته المحكمة الجنائية الدولية مطلوباً، وأوّلهم عمر البشير نفسه. في الذكرى الأولى للحكومة الانتقالية، أثار رئيس الحكومة، حمدوك، مخاطبا الشعب السوداني، أن ملف إحالة سدنة ذلك النظام المطلوبين للمحكمة الدولية، وجلّهم عسكريون، لا يزال مفتوحاً. ومثل تلك التلميحات الصادرة من المكوّن المدني لن يبتلعها المكوّن العسكري بيسر. لقد سبق أنْ عبّر العسكريون أنّ ذلك الملف يتصل بالهيبة الوطنية للجيش السوداني، وأنّ مثول ضباط من ذلك الجيش أمام محكمة دولية خارج السودان قد لا يكون مقبولا بالمرّة.
(7)
أحدثت التحدّيات أعلاه التي تواجه الحكومة الانتقالية في السودان إنهاكاً غير متوقعٍ، كما حمل إشارات إخفاقٍ في جوانب هامة من أداء تلك الحكومة، صارت أوضح من شمس النهار. والملاحظ أنّ الفجوة القائمة بين المكوّنين، المدني والعسكري، آخذة في الاتساع، وأنها ستفضي إلى مواجهة محتومة بينهما. يتأخر تعيين وزراء جُدد، بما يؤكد أنّ التشاور حوله يتعثر. الاتفاقيات التي جرى التوقيع عليها، قبل أيام، بقصد إحلال السلام في ربوع البلاد، لم تفضِ إلى سلامٍ شامل، بل دفع نقصانه رئيس وزراء السودان إلى أن يهرع إلى إثيوبيا ليلتقي قائد حركة رئيسية مسلحة تعارض ذلك الاتفاق، بهدف رتق ما يمكن رتقه فيه، ليكون أكثر مصداقية وشمولا.

كشف تضارب الصلاحيات بين المجلسين، السيادي والوزاري، هشاشة العلاقة بين المكوّنين، المدني والعسكري

إزاء كلّ ذلك الاستعصاء والإرباك والإنهاك، لا يتفاءل كثيرون أن تشهد الساحة السودانية انفراجاً ذا بال، بل ثمّة من يخشى أن تنهار المعادلة التي صيغتْ لإدارة البلاد، فتنزلق إلى مصير مأساوي محفوفٍ بتزايد الصراعات وتفشي الاقتتال وينذر بالتشظّي، ما لم تجنح تلك الثورة إلى استعادة عنفوانها والحفاظ على موسم ربيعها الذي أذهل العالم.