ثورة الأرحام أيها السادة

ثورة الأرحام أيها السادة

30 نوفمبر 2019

في اعتصام تقاطع عين الرمانة/ الشياح ببيروت (27/11/2019/العربي الجديد)

+ الخط -
مذهلٌ مشهد السيدات والصبايا اللبنانيات قبل أيام، وهن يسِرن معا بين منطقتي عين الرمانة والشياح، في رفض كل مظهرٍ للحرب الأهلية التي تحاول مد رأسها للقضاء على ثورة تشرين الوطنية الشعبية في لبنان، والتي كان منها إشكال أمني قبل أيام على محور "عين الرمانة/ الشياح" بين مناصرين لاثنين من أحزاب الحرب الأهلية اللبنانية، وفي منطقةٍ كانت محورا رئيسا من محاور الحرب. ما دفع سيدات المنطقتين، ومناطق لبنانية أخرى، إلى مبادرة للدعوة إلى مظاهرة نسائية/ أمومية مناهضة للحرب الأهلية، شعاراتها مضادة للانقسام الوطني، وتؤكد الرغبة في تشارك الحياة بين اللبنانيين جميعا. 
النساء في مظاهرة عين الرمانة/ الشياح يحملن الزهور البيضاء في أيديهن، والرجال على الشرفات والشبابيك يرشّون الرز الأبيض على المتظاهرات. يبدو المشهد سينمائيا ومبالغا في رمزيته، إذ هو شبيهٌ بأحلامنا عن الثورات، شبيهٌ بما نتخيّله عن الثورة المناقضة للواقع، شيء أشبه باليوتوبيا.. نساء يقدن الثورة لمنع عودة الحرب الأهلية التي يصنعها الرجال، نساء يقدن الثورة ليحمين أبناءهن من الموت العبثي الذي تضخه يوميات حروب عبثية، بينما من هم صنّاع الحروب يتقاعدون من هذه المهمة المميتة، ويحيّون نساءهم، أمهات وشقيقات وبنات وحبيبات وصديقات، ويرشّون عليهن الرز الأبيض رمز السلام، هل من مشهدٍ أكثر جمالا من هذا؟ ولكن من قال إن الشعوب لا يمكنها اجتراح العجائب وتحويل الخيال إلى واقعٍ في لحظاتٍ استثنائية؟ ها هم نساء لبنان ورجاله يفعلون ذلك، مُحبطين كل محاولات سيطرة الثورة المضادة على ثورتهم الجميلة والاستثنائية.
في لبنان، ثمّة أكثر من جيلٍ نشأ بعد الحرب الأهلية، لكنه عاش ويعيش نتائجها الكارثية، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا. وثمّة من جيل الحرب من على قيد الحياة. هؤلاء جميعا عاشوا عقود ما بعد الحرب في كنف الطوائف والتحالفات المشبوهة، واستزلام زعماء الطوائف والأحزاب للخارج، وارتهانهم ورهن لبنان معهم لأجنداته. لا يمكن القول، بالطبع، إنهم كلهم يريدون تغيير الواقع. ليس الحال بهذه الصورة الوردية حتما، فكثيرون يرون الوطن هو الطائفة التي ينتمون إليها، وهناك مستفيدون حتما من مافيات الطوائف وفسادها العام، وهناك خائفون من أي تغيير ومطمئنون على ما هم عليه، وهناك منتمون عقائديا إلى طائفةٍ أو حزبٍ ولا يمكنهم الخروج عن عقائدهم. هؤلاء كلهم جاهزون للانقضاض على الثورة اللبنانية، وتشويه جمالها وسلميتها ومدنيتها الفائقة.
ولكن، بغض النظر عن نتائج الثورة، وما يمكن أن يحصل لها، أو الافتراقات التي يمكن أن تحدُث لها، مع الأمل بعدم حدوثها، فإن ما حدث ويحدث في لبنان يؤرّخ لمرحلةٍ تاريخيةٍ أخرى، مرحلةٍ جديدةٍ من المواطنة الحقة والوعي الوطني الشعبي. والأكثر ربما هو وعي النساء اللبنانيات بدورهن وبحقوقهن التي لا تنفصل عن الحقوق السياسية والاقتصادية، وهو ما يدركه السياسيون وزعماء الطوائف والأحزاب، الذين لطالما كرّسوا التناقض بين الصورة الخارجية عن المرأة اللبنانية، أنها تتمتّع بقدر من الحرية الاجتماعية لا تتمتع به النساء العربيات عموما، ووضعها الحقيقي وما يطاولها من عسف اجتماعي، يتمثل بالقوانين التي تميز الرجل عنها بالحقوق والواجبات، ولا سيما ما يتعلق بالطلاق وحق الحضانة والميراث ومنح جنسيتها للأولاد والزوج، وإلى ما هنالك من حقوقٍ تساويها بالرجل، وهو ما تمنعه عنها الطبقة الحاكمة مع حلفائها من رجال الدين وزعماء الطوائف، لإبقاء السلطة الذكورية متأهبةً لصناعة الحروب حين يتطلبها الأمر.
ما تعيد خلقه ثورة لبنان ليس فقط توهج المرأة بوصفها الأكثر فعالية في المجتمعات، بل وهج الأمومة أيضا، بوصف الأمومة حاضنةً للكون، ووسيلةً للخلق، ومنتجةً للحياة بعد تعميم الموت الذي تصنعه آلة الحروب الذكورية. هل تكون الثورة الأمومية هي الحل للخلاص؟ والأمومة هنا لا تعني فقط النساء اللواتي أنجبن أولادا، بل كل النساء مالكات الأرحام التي تلد الجميع متشابهين، لتميزهم الحياة بعد ذلك، وتصنع منهم أخيارا وأشرارا وبين بين. دور ثورات الأمومة هو إعادة صياغة ما تفعله الحياة بالبشر، إعادة إنتاج المجتمعات ليكون أفرادُها بشرا طبيعيين، لا تمايز بينهم ولا تفرقة ولا حروب، يعيشون وهم موقنون بأنهم محكومون بالعدالة، وأن الوطن، بكل ما يمنحه من حقوق، هو للجميع، لا لجنس ولا لفئة ولا لحزب ولا لدين ولا لطائفة.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.