Skip to main content
ثمن الجزيرتين في مصر وسورية
وائل قنديل
الحكاية باختصار

 

الحكاية في نقابة الصحافيين المصريين تتعدّى كونها تأديباً للصحافة، بضبط وإحضار اثنين من أبنائها، قرّرا الاحتماء ببيت العائلة. كما لا تقف عند حدود تلغيم العلاقة "الملغومة أصلاً" بين الصحافة والمجتمع، أو إهانة الكيان الاعتباري والمعنوي لنقابة الصحافيين، بتصنيع روايةٍ، لا تقل عبطاً عن روايات جريمة جوليو ريجيني، تقول إن الصحافيين يخبئون متفجرات وعبوات حارقة في بيتهم.

القصة تتعدّى، أيضاً، التحرّش بنقيب الصحافيين، من خلال التلويح باتهامه بالتستر على الأشرار المزعومين الذين يخفون العبوات الناسفة والحارقة، داخل بيت العائلة الصحافية.

القصة، باختصار، أن الذي باع الجزيرتين، أو تنازل عنهما، قبض ثمنهما سندات استبداد ضخمة، وشيكات مفتوحة، على بياض، لممارسة القمع والبطش والتنكيل، بكل ما هو محترم ونبيل في مصر.

هي عملية إيذاء متعمدة لتلك "البؤرة" التي سببت إزعاجاً، للمشتري والبائع، وضايقت أولئك المنتشين بعملية شحن بطاريات الاستبداد، بكامل طاقتها، ومن ثم يتجاوز الأمر "النقابة المهنية" إلى المجتمع المصري كله، برسالة تقول: انظروا كيف نفعل بمن يمتلكون منابر ومنصات للاعتراض والشكوى، كيف نسحقهم بأدواتنا في القمع والإرهاب، فما بالكم بالناس العاديين، من غير أصحاب الصحف والمواقع الإلكترونية. هل يجرؤ أحد على الاعتراض والمعارضة بعد اليوم؟.

لا يجب أن ننظر إلى ما يجري في نقابة الصحافيين بمعزل عن السياق العام، داخلياً وخارجياً، ولا أستطيع، مثلاً، أن أتجاهل تصريحاً للزميل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، قبيل اقتحام بيت الصحافيين، وهو يعلن، من دون مواربة، عدم القبول ببقاء رئيس مجلس إدارة "الأهرام"، والتي تقوم مقام وزارة الإعلام المصرية (حسب تصوره) في منصبه.

هذا تصريح ممعن في الإهانة والإساءة للجماعة الصحافية المصرية، وبصرف النظر عن رأيك، أو موقفك، مما يكتبه رئيس مجلس إدارة "الأهرام"، وفيه كثير من سخائم الفاشية، فإنه لا يجوز أن يمارس أحد وصاية على صحافة دولة أخرى.

ومع اختلافي الشديد، الجذري أحياناً، مع مواقف رئيس "الأهرام" وآرائه، إلا أن ذلك لا يعني قبول أن يكون بقاؤه أو رحيله من منصبه خاضعاً لإملاءات وتدخلات، أو زفرات غضب تصدر من الخارج، وقد نال كاتب هذه السطور شيئاً من ذلك بعد أسبوعين من انقلاب عبد الفتاح السيسي، الذي قلت وقتها إن تفاصيله نشرت في إحدى الصحف السعودية، قبل أن تصل إلى "الأهرام" المصرية. وقد نشر أحد الكتاب السعوديين مقالاً في الصحيفة نفسها، يوجه فيه نقابة الصحافيين المصريين بطرد أمثالي من عضويتها قائلاً "إن الوضع المتأزم في مصر الذي يتجه نحو الانفراج، إن شاء الله، لا يتحمل وجوده وأمثاله في منابر الرأي العام في هذا الوقت، وعلى المسؤولين في الشقيقة مصر أن يطهروا الساحة الإعلامية من الذين يمثلون خطراً على أمن مصر وعلاقاتها التي تحتاج، في هذه المرحلة، إلى أقصى درجات التوثيق والدعم والمؤازرة، أما بالنسبة للمملكة وشعبها فستقبى مصر في القلب والضمير، مهما أفرزت الأوضاع من طفيليات ضارة".

وعلى الرغم من أن غطرسة ما بعد الانقلاب كانت تضع مقادير كل شيء في أيدي رعاته وداعميه، فإن أحداً لم يُنصت لهذا الهراء السخيف، أو يهتم به، وهذا ما يأخذنا إلى جوهر موضوع التلمظ والاشمئناط من نقابة الصحافيين الآن، بما يخرجه من أزمة، أو معركة، بين المؤسسة الأمنية ونقابة الرأي والتعبير في مصر، ويأخذه إلى حالة افتنان نظام سياسي متهور بما وقع في حجره من حصيلة التخلي عن الجزيرتين من أذون توحش وسندات صلف واستبداد، ناهيك عن أنه لمح، في عين المشتري، نظرة عدم رضا وتأفف من بيت الصحافيين المصريين الذي احتضن المحتجين على الصفقة. لذا، قرّرت سلطة عبد الفتاح السيسي التحرك باتجاه "فض النقابة"، كما فعلتها سابقاً، وفضت "رابعة والنهضة وأخواتهما".

وما ينسحب على النظام في مصر، يمكن سحبه على النظام في سورية الذي التقط الإشارة بشكل سريع، وأدرك أن الفرصة مواتية لكي يمارس قدراً أكبر من التوحش والإجرام، من دون أن يتحرّك أحد بشيء من الجدية، فالحاصل أنهم يخطفون الناس إلى حيث يريدون، فحين يشتعل الفضاء العام غضباً على قصة الجزيرتين، يتدخلون لتحويل مجرى الاهتمام، بفظائع ما يجري في حلب، وحين يلهث الغضب خلف القتلة في سورية، ويسطع غضب في مصر، ضد المذبحة، يسحبون الصحافيين المصريين والمجتمع إلى معركة النقابة والنظام. وهكذا تمضي لعبة "دومينو" كراهية الثورات على رقعة الاستبداد العربي.