ثقافة الطعام في كل مكان

ثقافة الطعام في كل مكان

20 ابريل 2020

طاهي يعد طعاما في مطعم في بكين (5/3/2020/Getty)

+ الخط -
تقول نكتة رائجة بين الصينيين إن الصيني يأكل كل ما يمشي على أربع، إلا السرير الذي ينام عليه، وكل ما يمشي على قدمين إلا أمه وأباه.. وقد ذكرتُ يوماً لشاب صيني يتعلم اللغة العربية أنني رأيت مطعماً في بكين مكتوباً على بابه أنه متخصص بتقديم برغر لحم الحمير، فقال لي إنه يفضل هذا البرغر، لكن المطاعم تغش وتقدّم لحم البقر على أنه لحم حمير! ولأنني زرت بكين كثيراً، وأعرف شوارعها جيداً، ولم أر سوى ذاك المطعم متخصصاً بالحمير، فقد أوردت القصة لأصدقائي الصينيين، فقالوا إن الذين يأكلون هذه الأطعمة أقلية في الصين، منهم القومية التي ينتمي إليها ذاك الشاب، وتعيش في جنوبي وسط البلاد. وفي مرة، كنت أزور مركز تسوق ضخم في شرقي سيول (الجزء الثري من عاصمة كوريا الجنوبية)، فهالني إقبال الناس (خصوصاً كبار السن) على ابتياع كائنات غريبة للأكل، في الطابق السفلي المخصص لبيع السلاحف والأفاعي والكائنات البرّية!
وفي طفولتي، كنا نسكن في حي في العقبة (جنوب الأردن) استأجرتْ فيه شركة كورية شقة لعدد من "خبرائها"، استقدمتهم مؤسسة وطنية. كان المهندسون الكوريون ودودين جداً مع جيرانهم، حتى إنهم دعوا رجال الحي، في إحدى الليالي، إلى وجبة شواء يقيمونها على سطح البناية. كانت الرائحة المنبعثة من الشواء غريبة بعض الشيء، وقد تبيّن للمدعوين أن مضيفيهم أحبّوا أن يكرموهم، فبادروا إلى شواء كلب!
هكذا إذن، فإن ثمّة ثقافة شعبية تدرج الكائنات البرّية، كالأفاعي والخفافيش والكلاب والصراصير، على قائمة الطعام اللذيذ لدى شعوب شرق آسيا. سألتُ صديقة صينية عن هذا الأمر يوماً، فأظهرت اشمئزازها من ذلك، وشرحت لي أن أقلية فقط هم من يفعلون هذا. وشرح لي آخرون أن قلةً من قوميات جنوب الصين ووسطها هم من يقبلون على هذه الأطعمة، خصوصاً كبار السن منهم، وأن الأمر عادة غذائية موروثة من زمن ندرة الطعام والفقر الشديد الذي عاشه الشعب الصيني في القرنين الأخيرين. وللحقيقة، لم أدخل يوماً مطعماً في الصين، فأجده يقدّم الحشرات مثلاً، لكن هذا لا يعني أنني لم أر أطعمة غريبة، مثل أقدام الدجاج المطهوة في صلصة حمراء، وأنوف الخنزير المقلية.

هل أنتم متقزّزون إخوتي العرب؟ لا عليكم، فالصينيون والشرق آسيويين يتقزّزون كثيراً من طهوكم أقدام الماعز التي تسمى في ثقافة أهل الشام "مقادم". هم أيضاً يتقززون من فكرة شرب بول الإبل التي كانت ثقافة دينية رائجة أيام الجهل، وما زالت موجودة عند أقلية منّا.
سأل أحد القراء موقع "الإسلام سؤال وجواب" على الإنترنت: "أرجو من فضيلتكم تزويدي بالجواب العلمي، إن توصل العلم إليه، وذلك بشأن الحديث الصحيح عن شرب أبوال الإبل"، فأجاب "فضيلته": "الحديث الذي أشار إليه السائل حديث صحيح، وفيه أن قوماً جاءوا المدينة النبوية فمرضوا فأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشرب من ألبان الإبل وأبوالها، فصحوا وسمنوا. وأما عن فوائد أبوال وألبان الإبل الصحية فهي كثيرة، وهي معلومة عند المتقدّمين من أهل العلم بالطب، وقد أثبتتها الأبحاث العلمية الحديثة". انتهى الاقتباس.
ولكن موقع "مداد" الديني ذكر أن فقهاء ذهبوا إلى حُرمة التداوي بأبوال الإبل وغيرها من سائر الأبوال، إذ روي هذا عن أبي حنيفة، وبعض الشافعية، كما وصفه النووي بالشذوذ. أما موقع "أهل القرآن" فقال إن "شرب أبوال الإبل للعلاج بدعة فى دين الله، اخترعها أعداء الآية أتباع الرواية، وجميع المرويات المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام غير صحيحة وباطلة". وجاء على موقع ويكيبيديا: "نصحت منظمة الصحة العالمية بتجنّب بول الإبل، حيث تم الربط بينه وبين متلازمة الشرق الأوسط التنفسية". فيما شرح موقع "موضوع" أنه: "يجدر الحرص على اتّباع إجراءات الصحة والسلامة العامّة عند التعامل مع حيوانات البعير، حيثُ يُعتقد بوجود علاقة بينها وبين انتشار فيروس كورونا الشرق الأوسط". وهذا النص الأخير منشور في سبتمبر/ أيلول 2018، أي قبل ظهور فيروس كورونا المستجد بأكثر من عام.
والحال أن ثمّة ثقافات رائجة عند مختلف شعوب الأرض، ونحن العرب لسنا استثناءً منها، تُدخل طعاماً مقزّزاً وخطيراً من الناحية الصحية ضمن موائدها. ولكن تقدّم التعليم وتحسن الأحوال المعيشية ساهما كثيراً في تراجع هذه الثقافات في كل مكان. لذا، ليس منطقياً أن تتحمّل شعوب كاملة المسؤولية الأخلاقية عمّا يفعله بعض من أفرادها وجهلائها أو حتى أعراقها، وإلا لكان علينا، نحن العرب، أن نتحمل عبء من لا يزالون يشربون بول الإبل، ويفتون بشربه باعتباره علاجاً، خصوصاً لو حدث أن أحدهم شرب بول إبله فأصيب بمرضٍ ما، ونقله إلى محيطه، ثم بات وباءً يشتكي منه العالم كله!
يمكن أن يكون مفهوماً ما أقدم عليه الرئيس الأميركي، ترامب، حين أطلق على فيروس كورونا المستجد اسم "الفيروس الصيني"، فالصين عنده خصمٌ يريد أن يستغل كل فرصة للتعريض بها وإيذائها. ولكنه ليس مفهوماً ما يُقدم عليه قطاع من العرب هذه الأيام من حيث التشهير بالصين، على خلفية تسبّب أحد أفرادها أو مجموعة منهم بنقل هذا الفيروس من الحيوان إلى الإنسان، ومنه إلى العالم. ألا تدركون أن الصين هي اليوم بابٌ مفتوح لنا، ما زلنا، للأسف، نتردّد في عبوره، يمكنه أن ينقلنا من التأخر الحضاري والتكنولوجي عن العالم إلى مرحلة جديدة من التقدّم العلمي والمعرفي والاقتصادي، ثم الحضاري، لو خططنا لذلك جيداً. ربما لا تدركون!
.. جيدٌ أن الصين أصدرت، قبل أيام، قانوناً يحظر في أسواقها أكل الحيونات البرّية وبيعها.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.