تَعِــز.. قصَّةُ صُمودٍ اسْتِثْنائِي

21 مارس 2016
+ الخط -
تَعِـز، أصل القصة ومُبتدأ الحكاية، بمفرداتها التي لا تنتهي، وبتفاصيلها التي لا تُمَلّ، حكاية إبداع ثوريٍّ مُتجدِّد، وعُنفوانُ شباب مُتَّقد، كانت، ولاتزال، نواته ومُنطلقه منذُ ثورة 1948، التي أطاحت الإمام يحيى، و1962 التي أطاحت ولده الإمام أحمد، وحتى2011 التي أطاحت علي عبد الله صالح، الذي ارتدى عبَاءَة الجمهورية، وتحتها ظل يُخفي قميص الإمامة والسُلالة 33 عاماً، فقد تمكنت من دَحْر تلك الكلاب الشاردة من على مشارفها، وطردتها خارج أسوراها.
تجوَّلتُ في الأيام الماضية في شوارع مدينة تعز، وخصوصاً التي جثمَ فيها الغُزاة أشهر طويلة في الجبهة الغربية، وسَرَحْتُ فيها طولاً وعَرْضاً، بدءًاً بجولة المُرور فشارع الحَصِب وبئر بَاشا، ومروراً بالثلاثين وسدّ الجَبَلَيْنِ، وصولاً إلى وادي الضباب، كانت الأرضُ تحضُنني مع جُموع الناس كأم رؤوم، وكأنها تحتفي بأبنائها بعد طول غياب.
كنتُ برفقة بعض الأصدقاء، وكان الجو شديد الحرارة، فربيع تعز استوى مع صيفها في السخونة، كان بائع الثلج يلوِّح إلينا ببعض قطع الثلج طالباً منا الشراء، بَدَتْ أشعة الشمس وهي تُعانق تلك القطع الثلجية، مثل حبَّات لؤلؤ تناثر في الفضاء، وتتراقص أمام أعيينا، كنغمات موسيقى تتمايل في الهواء، كانت فرحتنا لا توصف بتلك القطع الثلجية التي باتت في متناول اليد بين عشية وضحاها، وهي التي كانت، قبل أيام قلائل ربما، تُساوي وزنها ذهباً.
لا تحسبوني مُبالغاً، فأنا أكتب من قلب مُعاناة، عشتُ كل دقيقة في تفاصيلها مع صغاري الذين أبوا إلاَّ أن يكونوا جزءاً من قصَّة الصُّمود الاستثنائي، لمدينتهم الاستثنائية تعز، منذُ أول يوم لهذه الحرب اللعينة التي لا يُريد نَزَق السياسيين لها نهاية على ما يبدو حتى اللحظة، والتي ستدوّنها ذاكرة الأجيال حتماً، وستحكيها كتب التاريخ قطعاً.
كانَ جبل وادي هَارِبْ الاستراتيجي "غرب تعز" شامخاً يُعانق السماء كعادته، وقد تَرَاءَى لي مثل أسد رابض، يرقُب بعينيه حركة كل داخل إلى المدينة وخارج منها، من مختلف الاتجاهات، فعندما تعتلي قمة ذاك الجبل المهم، وتقف باتجاه المشرق، تُصاب بالذهول، أولاً، من بديع المشهد وجمال المنظر، وتحِسُّ بأنك تستطيع احتضان المدينة بأسرها في يديك.
تبدو كامل المدينة أمامك بوضوح حتى الحَوْبَان، فيما لو أخفضت عينيك نحو الأسفل قليلاً، سيصبح سدَّ الجَبَلَيْنِ تحتك، ومناطق الظُّهْرَةَ ووادي التَّبَدُّدْ والثلاثين أمامك، وإن مِلْتَ بنظرك قليلاً باتجاه جنوب شرق فسترى كلية الطب ومباني الجامعة عن بُعد، أما يمينك جنوباً فوادي الضَّبَاب وحدائق الصالح، وإلى الجنوب الغربي وادي المَجَافِي والألواح وخط مدينة التُّرْبَة، وعن يسارك إلى الشمال، يقع مُعسكر اللواء 35، المُطل على شارع الخمسين شمالاً، وعلى الثلاثين جنوباً، والذي كان هدفاً للتحالف طوال الشهور الماضية، ومن خلفك ترى بوضوح وادي مَدَرَاتْ ومناطق حِذْرَان ومُنِيْف وكِشْرَانِيَة والحَيْمَة والرُّبيْعِي، وإمبراطوريات هائل سعيد والشيباني، وخط الحديدة، ثم مروراً بمدينة هَجْدَةَ، ووصولاً إلى مدينة المَخَا على ساحل البحر الأحمر.
تكفيكَ نظرة واحدة من بعيد، صوب ذاك الجبل الأشم، الذي أسهبتُ في الحديث عنه لأهميته في الحرب الراهنة، ولأنني شرُفتُ يوماً باعتلاء قمته على وُعُورته، لتدرك معها كل معاني الكبرياء والغُرور، لمدينتي الاستثنائية التي أتحدَّث عنها، تلك المدينة التي يُشعرك مُجرَّدُ إحساسك بالانتماء إليها، بأنك أصبحتَ إنساناً مغروراً، وأعني بالغرور ذاك الذي يُمتدحُ فيه الرجال، حين يكون سلاحا يُغاظُ به العدو ليس إلاَّ، أما الغرور بصفة الذَّم، فلا وجود له بقاموس مدينتي قطعاً.
على طول الخط، كانت المساكنُ والأبنية -على تواضعها- تُطَاوِلُ السماء بشُموخها، بينما أسطُحَها ونوافذها المُتهالكة، تحكي قصص بشاعات البرابرة ولصوص الأوطان، حين يجتاحون المدن. أما أطفال الحَالِمَة، فقد خرجوا إلى الأزِقَّة والحَارات، على طريقتهم الخاصة، يُوزِّعون قِطَع الحَلوى على بعض أبطال المقاومة، وهم يُغنُّون أهازيج النصر، ويرددون شعارات تُشيد بالمقاومة ورجالها.
نُدرك جيداً أن النصر لم يكتمل بعد، وأن المعركة لا زالت طويلة، لكن ذاك التقدم الذي أحرزته المقاومة الشعبية، بدعم مباشر من الجيش الوطني، وبغطاء جوي من التحالف العربي، على الجبهة الغربية للمدينة، قد فتح الحصار عن المدينة وإن بشكل جزئي، ووسع من دائرة الأمل صوب تحرير المدينة بشكل كامل على المدى القريب، وأولُ الغَيث قطْرٌ ثم ينهمِرُ.
آخر القول .. للخائفين والقلقين على تَعِز رُوَيدكُم .. تَوقَّفُوا..! لا شيء في مدينتي يبعث على الخوف أبداً، كما ليس فيها ما يدعو للقلق مُطلقاً، وإن كان ثمَّة شيء من ذلك ينتَابُكم، ففتشوا عن أسبابه بدَوَاخِلكُم وذَوَاتِكُم، أما مدينتي فلازال أطفالها يحملون الأقلام ويذهبون إلى المدارس، كما لازالوا يحيُّون العلم في الطابور عند كل صباح، فيما نساؤها لازِلنَ يُجدن الزَّغَارِيد من على الشُّرُفَات، كما لازِلْنَ يَتفنَّنّ في نُقُوشِ الحِنَّاء، على أيادِيهن وسَوَاعِدِهِن.
8A4CCA6F-5F3E-4C7B-BF41-CB7A3D872F05
8A4CCA6F-5F3E-4C7B-BF41-CB7A3D872F05
حبيب العزي (اليمن)
حبيب العزي (اليمن)