Skip to main content
تيرانس ماليك.. لا يطرح سؤال: كيف سينتهي الفيلم؟
عمّار محمود
( الفيلم الأخير لـ تيرانس ماليك)


ينتظر محبّو السينما العرض التجاري لفيلم تيرانس ماليك الجديد (A song to song)، والذي يُعدّ من أكثر المخرجين العالميين إثارة للاستقطاب، فريق يحبّه أو آخر لا. لا أحد يتعامل مع ماليك بحيادية، لأنه يثير محبيّه أو ينفّر غير المعجبين بسينماه للأسباب نفسها.

تنوّعت أفلامه ومواضيعه وأساليب عرضه لتلك المواضيع، يفلتر جمهوره باستمرارية كما أظن، فبداية من الأساليب السردية الخطية في (الأرض الوعرة – Badlands) مرورًا بالسينما الحداثية في فيلم (The Tree Of Life – To The Wonder – The New World)، والفيلم الحربي في (The Thin Red Line)، كل ذلك وبصمته موجودة، كل ذلك من أجل إمساك لحظة يحقّق من خلالها اليوفوريا المنشودة من التفكير والتفكّر، لأنها الغرض الأساسي من الفلسفة التي درسها قبيل دخوله لعالم السينما.

يؤمن ماليك بحتمية وجود الفلسفة داخل إطار الفيلم، يطرح تساؤلًا مهمًا يفتّت العلاقات الإنسانية لفهمها، يقسو كثيرًا ويطرح أسئلة مزعجة وهو حقيقة من المخرجين الذين لكي يتم إنصافهم لابد من مقارنتهم بالمفكّرين.

في روايته "مالون يموت" يقول صامويل بيكيت: "لو استطعت امتلاك جسدي، لألقيت به من النافذة"، فلكي تعرف أي إنسان بكل عُمق، لابد أن تحرّره من كل القوانين الوضعية والسماوية، عندها سيكون هو فقط المتحكّم الوحيد في نفسه، وعند محاسبته على أخطائه سيكون ذلك بمنتهى العدل، لا مؤثّرات تفلتر أو تؤثّر على تصرفاته ولا أهوائه، سيكون وليد تجربته فقط، إما إنسان صحيح يؤمن بأن حياته ستستمرّ دون إيذاء الآخرين، أو همجي مثل كيت بطل فيلم (BadLands)، يؤمن بأن حياته لن تستمر سوى بالتخلّص من الآخرين.

يتساءل ماليك في فيلمه الأوّل عن جدوى القوانين، وقدرتها على تحريك المجرمين، والتي هي بالنسبة له لا شيء سوى شرارة بعد الحريق، فـ كيت لم توقفه القوانين، ولا مطاردة الجميع له في كل مكان، بل اتّخذ كل ذلك كذريعة للقتل، إلى أن تحوّل تمامًا لإنسان همجي، فقط لأن نهايته محسومة سواء قتل واحدا فقط أو أكثر، كل النهايات تؤدّي للإعدام بالكرسي الكهربائي، قتل صديقه لأنه فقط شعر بتوتّر، لم يتوقّف إلا من تلقاء نفسه، ربّما تساءل عن جدوى ما يفعله، وإلى متى الهرب، بالرغم من أنه كان يهرب كل مرّة بنجاح دون أية إصابات، إلا أنه توقف، ليس بداعي احترام العدالة، ولكن بداعي احترام إنسان ما، هو يفتقده، حبيبته التي لم يرغب في العالم سواها، والتي تحيطها علامات استفهام كبيرة، هل بقاؤها معه خوفًا منه أم حبًا فيه.

في فيلمه الثاني (Days Of Heaven)، استخدم ماليك نفس الطريقة الكلاسيكية للسرد، ولكنه لم يسأل السؤال الكلاسيكي، كيف سينتهي الفيلم؟ وإنما لغّم فيلمه بعلاقة غريبة جدًا، غير اعتيادية، تثير تساؤلات لا حصر لها عن الفتاة آبي وحبيبها بيل، اللذين يُخفيان علاقتهما ببعضهما عن مسؤولي وعمّال المزرعة التي يعملان بها، فكان التساؤل العريض في الفيلم عن الحب، وما هو حجم التضحيات التي يُمكننا فعلها تحت تأثيره الرهيب، وما مدى نزاهتها، والأحداث كانت شبه محسومة، وذلك لا يهم، لأن الرجال تلاعبوا بالفتاة دون إرادة منها، فقط لأن للمحبّين حصصا في أجساد وإرادة محبيهم.

بداية التجريب
لكي تتخلّى عن طريقة ما في عرض أفكارك، لابد أن تجد من يساعدك على ذلك، يفهم وجهة نظرك ويقف معك على نفس الأرض التي تنطلق منها تصوّراتك عن العالم السينمائي الذي تريد تكوينه، لأنها مقامرة، وماليك فعلها في فيلمه الرابع (The New World)، والذي كان التعاون الأوّل بينه وبين مدير التصوير إيمانويل لوبيزكي، الوحيد الحائز على ثلاث جوائز أوسكار متتالية في تاريخ الجائزة لفئة أفضل مدير تصوير.

"إن هذا الخلق للتجلّيات، يتمّ عبر تراكم المألوف والعادي، بحيث إن اللحظة الفريدة تكون مقتطعة من لحظة أخرى من الزمان، هي نفسها، لكنها لا عادية ولا مألوفة"، يقول جيل دولوز واصفًا عمل المخرج الروسي إيزنيشتاين في فيلمه (المدرعة بوتمكين)، وحديثه هنا ينطبق على فيلم ماليك (شجرة الحياة – The Tree Of Life) والذي يمكننا أن نعتبره ليس التجلّي في أفلام ماليك وحسب، وإنما التجلّي في تاريخ السينما أيضًا.

يذكر لوبيزكي بأن العمل بصحبة ماليك قد غيّر حياته كلهّا، وأحاله لإنسان وصديق وزوج آخرين عما كان، ساعده على فهم العالم بصورة مختلفة ولفت انتباهه لتفاصيل لم يكن يأخذها في الحسبان، ولذلك اتفقوا على مجموعة من البروتوكولات قبيل البدء في تصوير (شجرة الحياة)، فضرورة التخلّي عن الإضاءة الاصطناعية، وأذرع التحكّم في الكاميرا والاكتفاء بالكاميرا المحمولة على صدر المصور بمساعدة جهاز مصمّم لذلك، وتصوير كل ما يحدث في موقع التصوير من أية شيء سواء داخل سياق الفيلم أو في أماكن حول أماكن التصوير، كل شيء تنبت فيه الحياة دون آخر، كمشاهد العصافير المكتظّة في الأبراج، مشاهد تفتح النباتات، كل تلك اللحظات التي تتجلىّ فيها الحياة كما يود أن يُريها لنا ماليك.

وصل الثنائي إلى ذروة الكمال السينمائي في (شجرة الحياة)، والذي يعد التعاون الثاني بينهما، فبعد أن عملا لأوّل مرّة في (The New World)، والذي أخذت علامات التجريب والتجديد والخصوصية الشديدة لسينما ماليك في الظهور فيه، فبداية بحركة الكاميرا إلى توقيت المونتاج وطريقة أداء الممثلين ونطقهم للكلمات، حد أن لوبيزكي يؤمن بأن الكلمات تلك كانت تمتلك إيقاعا خارجيا مثل الشعر، يضيف عمقًا للشعور العام للفيلم وإيقاعًا للسرد عامة، في فيلم يدور بين الغابات المطيرة والحرب الأزلية بين المحتل وصاحب الأرض.

لم يكن (شجرة الحياة)، سوى الوتد الذي استمر منه المخرج ماليك في التعاون مع لوبيزكي أولًا، وفي تلك الطريقة التجريبية التي تؤمن بأن خلق الفيلم يتمّ في غرفة المونتاج، تمامًا كإيزنشتاين، يتمّ تصوير مادة الفيلم بأكملها، وما هو جميل شكلًا هو مرجعية للفيلم، يؤمن بأن الصورة السينمائية هي أصل الإحساس والموضوع في الفيلم السينمائي.

لم ينس ماليك أن المحتوى هو جزءٌ لا يتجزأ من الشكل، حافظ عليه، جمّله، وابتكره، قدّم لنا المؤثّرات البصرية في مشهد لاكريموزا البديع بشكل أصيل، رسم لنا الكون ثم جعلنا نشاهده من عينيه، بمصاحبة الموسيقى الجليلة للبولندي برايزنر والذي كان الموسيقي الرئيسي في أفلام المخرج كريستوف كيسلوفسكي.

ربّما كان ذلك الفيلم تجلّي ماليك ولوبيزكي، اللذين حاولا تكرار التجربة الناجحة لمرتين ولكنهما لم ينجحا أو يكرّرا نجاح (شجرة الحياة)، وأظن أن السبب هو التفتيت المبالغ فيه للأحداث، حد أن تلك اللقطات المقتطعة من السياق العام للعالم السينمائي الموجود في الفيلم، تكاد تكون متكرّرة، لا نفهم منها إلا أنها لا تحمل أطروحة أو وجهة نظر ما، فمثلًا (To The Wonder)، هو فيلم يتأمّل في علاقة بين رجل وامرأتين، في عالمهما الضيّق، ربما لو كانت السياقات أكثر اتساعًا لكان للفيلم شأن كشأن (شجرة الحياة).

كما يقول جيل دولوز: "نظرية السينما ليست عن السينما وإنما عن المفاهيم التي كوّنتها السينما"، كذلك سينما ماليك ليست عن العالم الذي نعيشه بشكل خطّي، وإنما عن التجلّي المؤثّر في المسار الخطي للزمن في هذا العالم، ولكي نستوعب ونعطي سينماه مكانتها الطبيعية، لابد من فهم من حاولوا البحث عن الفريد ومن حاولوا خلقه.