تيار المتحف والمنسف

تيار المتحف والمنسف

23 يوليو 2020

أيا صوفيا في اسطنبول .. كنيسة ثم مسجدا ثم متحفا ثم مسجدا (21/7/2020/الأناضول)

+ الخط -

تيار المتحف هو تيار فكريّ الظاهر، سياسي وديني الباطن، وهو شقيق تيار المندي والمنسف. ظهر بعد إعلان أردوغان إعادة جامع آيا صوفيا مسجداً، ونجد هذا النزوع عند طائفة من كتّاب صحيفة الشرق الأوسط وأشباههم، ومن لفَّ لفّهم.

دعا إلى تحنيط آيا صوفيا متحفاً، بزعم قلة المتاحف التركية، وكأن هذا التيار يضمر كثرتها في السعودية والجزيرة العربية، وكان الحكم السعودي قد أتلف جميع الآثار النبوية، بزعم حرصه على التوحيد، ولم يبقِ سوى حصون اليهود. 

حضَّ كبيرُ هذا التيار أردوغان على قراءة التاريخ، بدلاً من بيع البطيخ، وصناعة الطائرات المسيّرة والسيارت الكهربائية، وحفر الأنفاق بين الجزر التركية، ومدّ الجسور على البحار، وأهاب به الاعتبار بعين بطل الأتاري السعودي بن سلمان، وعين السيسي، في قولته لضيفه الرئيس الفرنسي ماكرون، والتي ذهبت مثلاً في الكوميديا: "لا تروننا بعيونكم الأوروبية، نحن لا نراكم بعيوننا المصرية، .."، فزاغت عينا الرئيس الفرنسي من ثقل العبارة التاريخية، وعيونٍ كعيون البعوضة التي تبلغ مائة عين. وزعم بعض المعلقين الظرفاء أن المترجم استقال من عمله وفكر في الانتحار، فالسيسي هو ابن المتاحف، ومصر فيها، على ما يقول إعلاميوها ومؤرّخوها، ثلث آثار التاريخ. لذلك لا بأس في أن تُدمّر بعض مساجدها، وبالأمس دُمّر قبر المقريزي. ولا بأس في أن يهبَ أبو العيون بعض التحف للإمارات. 

ويمكن أن نصف تيار المتحف بأنه في منزلةٍ بين المنزلتين، فلا هو مع الكنيسة، ولا هو مع الجامع. هو علماني الظاهر، يتجاهل أن متاحفنا جميعها هي في الهواء الطلق أو في نشرة الأخبار، فنحن نعيش في متحف، وبرهان ذلك أن الرئيس العربي ينظر إلينا تحفا وأشياء، ونحن ننظر إليه صنما، والصنم تحفة تُعبد، بل إن مجلس الشعب متحف فيه آثار بشرية ومومياوات. والرغيف تحفة، من وجهين؛ أنه من صلصال كالفخار، وأنه نادر، وكذلك جرّة الغاز التي لا تشبه عشتار، والعروس تحفة، والعريس تحفة، ونسبة الفوز في الانتخابات تحفة، والملك العربي تحفة وأثر من آثار التاريخ. 

ولكن المتاحف في بلادنا تشبه السيرك، فمتحفنا سيرك، وسيركنا متحف. من ذلك أننا افتقدنا رئيس الوزراء السوري الذي ذكرت أخبار كثيرة أنه فاسد وتحفة ومعتقل، ثم خرج من قبعة أسماء الأسد التي كانت تشرف على التحقيق، فوجدناه سعيداً يشارك في أداء واجبه وحقه الانتخابي. ولعلم القارئ أن التُّحْفة: هي الطُرْفةُ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرَّياحين، كما يقول لسان العرب. والتُّحْفَةُ: مَا أَتْحَفْتَ بِهِ الرجلَ مِنَ البِرِّ واللُّطْف والنَّغَص، وَكَذَلِكَ التُّحَفَة، بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْجَمْعُ تُحَفٌ، وَقَدْ أَتْحَفَه بِهَا واتَّحَفَه، ثم آلت إلى الأشياء الأثرية والقديمة فلصقت بها إلى الأبد، وملوكنا الذين يجلسون على كنوز من التحف القديمة، وطُرف الفاكهة والثمار والبشر، يتحفوننا بالنغص، والمهرّبون الذين يسرقون التحف ويبيعونها لأوروبا حيث يقدّرونها ويقدّسونها، ويضعونها في متاحفهم، ويجنون من ورائها الأموال، من ذلك مساجد قرطبة وقصر الأحمر وغيرها في الأندلس التي تجني إسبانيا من ورائها ملايين الدولارات.

نعود إلى تيار المتحف الفكري الذي يؤدي نمرة العقل والرشاد في سيرك الملك، وفي إعلامه وصحفه، فنقول إن أميركا قضت على الهنود الحمر قضاءً شبه تام، ولم تترك منهم سوى بعض البشر للتمثيل في الأفلام بأدوار الكومبارس والهنود المتوحشين، ولم يبق سوى بعض الآثار في المتاحف، وجماجم كثيرة تعرض تحفا للزينة، فالعظة والاعتبار ليست من نزعات العقل الأميركي، فهو لا يتّعظ. وكذلك تعرض جماجم أبطالنا الذين دافعوا عن كرامتهم على أنها جماجم إرهابيين في فرنسا النور والأنوار.

أيها التحف: "أنتم لا تحبون أن تروننا إلا بعيونكم الأوروبية"، نحن نراكم هكذا حتى لا نصير من التاريخ، كما تقول العبارة السينمائية والسياسية الأميركية الشهيرة.

683A43FF-D735-4EBA-B187-3AC9E42FAE32
أحمد عمر

كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."