Skip to main content
تونس والجدالات الفقهية في حقبة السبسي
نبيل الريحاني
لماذا طرح السبسي مسألة المساواة في الإرث اليوم؟ (25/6/2017/الأناضول)
ليس من مشكلة في أن يناقش التونسيون قضايا الفقه الإسلامي، وما اتصل بها من قوانين تعتمدها الدولة في إدارة الشؤون العامة والشخصية، ولا عيب في أن تتدافع بينهم وجهات النظر التي من الطبيعي أن تجيء مختلفة، ولطالما كانت كذلك.
في مجتمعات التقدّم والتنوير والازدهار بأنواعه، يشكل النقاش في هذه المواضيع أحد أهم الدلائل على حيوية المجتمع، واختبارا لمدى قدرة النخب على الاقتراب من هموم عامة الناس وانشغالاتها، كما تمثل برهانا على نجاح الدولة، أو إخفاقها، في توفير الشرط الموضوعي لشيوع ثقافة الحوار والاختلاف. لكن الأمر في السياق التونسي يختلف لعدة أسباب، لعل من أهمها الظرف الذي ألقيت خلاله قضية مساواة الأنثى مع الذكر في الإرث، وإجازة زواج المسلمة من غير المسلم، إلى الفضاء العام والافتراضي، كي تغرق فيه التعليقات والتعليقات المضادة.
في غياب الأطر المثلى لهذا الحوار، سواء أحالت على النخب القادرة على تفكيك الإشكالات وإعادة تركيبها، أو الجمهور الواعي القادر على التفاعل مع جدل الأفكار والمبادرات الناشئة على أساسها، وفي ظل هيمنة مظاهر الإخفاق الرسمي واكتساح الفساد كل مناحي الحياة، يتحول طرح قضية المساواة في الإرث وزواج المسلمة من غير المسلم من محور اشتباكٍ على طريق التحرير والتنوير، إلى أرضٍ خصبة للمناورة السياسية، ومزرعة مبكرة لحصد المغانم الانتخابية.
يكتب هذا هنا بالنظر أساسا إلى السياق الذي طفت فيه هذه القضية على السطح، لتتصدر منابر الإعلام والسياسة، ولتصبح حديث القاصي والداني في تونس، بل تردّد صداها في أروقة الأزهر، وغيره من الحواضر الإسلامية التقليدية.
لا يحتاج الملاحظ جهدا كثيرا حتى يلحظ المواقيت التي اختيرت، فيما يبدو، بعناية، لفتح الباب على مصراعيه أمام من هبّ ودب، ليدلي بدلوه في هذه القضايا، فقبل الإرث والزواج من غير المسلم، عاش التونسيون على "فقاعاتٍ" ملأت الدنيا، وشغلت الناس، منها ما تعلق بالمثلية
الجنسية وحلية الخمور. وغرق الجميع نخبا وعواما في حروبٍ كلامية طاحنة، وتأويلات ذهبت بهم مذاهب شتى، حتى إذا جاء وقتٌ ما تبدّدت القضية، وخبا الصراع حولها، وانقشع غبار المواجهات عن أجنداتٍ سياسية وغير سياسية، بلاعبين المخفي بينهم أكثر بكثير من الظاهر. وبدا أن تلك المعارك، وبقطع النظر عن حيثيات ظهورها واشتدادها ثم خبوها، صرفت نظر التونسيين عن قضايا أخرى، هي أقرب إلى حراكهم الثوري الذي تراجع بقوةٍ تحت وطأة الحملات الإعلامية المركّزة، وفي ظل ما أسفرت عنه انتخابات 2014 من مشهدٍ سياسيٍّ، بعيد كل البعد عما بشّر به فجر السابع من ديسمبر/ كانون الأول 2010 (انطلاقة الثورة على نظام بن علي) من تغيير جذري عاصف.
بالعودة إلى ملابسات تلك المعارك، تجدها قد استبقت أو أعقبت أحداثا أمنية كبيرة واضطرابات اجتماعية مشهودة، والأهم ظهور مطالبات بفتح ملفاتٍ طمستها التركيبة السياسية التي أفرزتها تحالفات ما بعد 2014، وسواء كانت تلك الملفات مبنيةً على مبالغاتٍ أو حقائق خفية، فإن المطالبة بالشفافية في حقيقة الثروات الوطنية والبنود الضمنية للاستقلال عن فرنسا، وما يعتمل في كواليس شركات كبرى عاملة في إنتاج الثروات الوطنية الكبرى وتوزيعها، إضافة إلى الامتيازات الممنوحة للشركات متعدّدة الجنسيات العاملة في البلاد، ذلك كله عبر عن رغبةٍ ملحة لدى الشارع في معرفة الحقيقة، وإشاعة ثقافة المساءلة، بوصفهما مظهرا صميما من مظاهر الحياة الديمقراطية.
ولما كانت حيلة السلطة قاصرةً ضيقة، سواء بفعل الإمكانات المتاحة، أو نزولا عند أجندة سياسية، أو التزاما بمقتضيات النفوذ الأجنبي في تونس، كانت هذه "الفزّاعات" توفر متنفسّا ثمينا مكّن الحكومات من التقاط الأنفاس، وتدوير الأزمات، والاستثمار في تشتيت الأصوات والجهود وإلهاء الأصوات الغاضبة عن مقاصدها الأولى.
هل ينطبق ذلك على قضايا المساواة في الإرث وزواج المسلمة من غير المسلم؟ بلى وبكل تأكيد، ذلك أن حكومة التوافق التي تحكم البلاد في ظل زواج مصلحةٍ حذر بين حزبي نداء تونس والنهضة، شرعت تقترب من نهاية ولايتها، وهي تحمل في يديها حصادا هزيلا بعيدا عن الوعود الانتخابية السخية التي أطلقها الندائيون، في صعودهم الصاروخي إلى المواقع المتقدمة في الساحة السياسية التونسية، ومنها إلى مربع صنع القرار فيها.
صحيح أن المؤشرات الاقتصادية والأمنية سجلت تحسّنا لا ينكره إلا جاحد، إلا أن ذلك لم يصل إلى حد رفع جزء كبير من معاناة التونسيين الذين تهرّأت طبقتهم الوسطى، وغرقت الفئات الفقيرة منهم في مزيد من الفقر والخصاصة، في وقتٍ بقي فيه رأس المال رهينة سياسة غير واضحة، متأرجحة بين المحاسبة والمصالحة.
نشبت الاضطرابات الاجتماعية الخطيرة، في محطات عدة، وعادت العمليات الإرهابية، وفاقمت الانقسامات السياسية التي مر بها حزب نداء تونس أزمات تونس، وجعلتها البلد الأقل سوءا بين بلدان الربيع العربي، ليس بالنظر إلى إنجازاتها وإنما بالنظر لأنهار الدم التي تسيل بغزارة في تلك البلدان. واقع أطلقت فيه حكومة يوسف الشاهد حملة ضد الفساد، إيفاءً بوعد كانت قد أطلقته، فاستهدفت رجل الأعمال المعروف والمثير للجدل، شفيق الجراية، وهي الحملة التي ترافقت مع إيقافات لأسماء محدودة، معروفة بصلتها بالتهريب الذي التهم كثيرا من اقتصاد البلاد، في ظل حديث بدأ يتصاعد عن "دولة راس المال الفاسد"، بيد أن هذه الحملة التي ذكّرت التونسيين بمطلب ثوري كانت تطويه مجريات الواقع القائم في البلاد، وبعد أن دغدغت مشاعر بعض منهم، عادت بدورها لتلد أسئلةً مشروعة عن سر القائمة المحدودة، والمنتقاة، للمعنيين بحملات مقاومة الفساد، ذلك أن سقف توقعات تونسيين كثيرين أعلى بكثير من الأسماء القليلة التي طاولتها الإيقافات.
يستدل فريق من المتابعين للشأن التونسي بالملاحقة القضائية المتسارعة التي انطلقت في حق
رجل الأعمال، سليم الرياحي، الذي بدوره حقق صعودا سياسيا ملحوظا بفضل ثروته الطائلة، ليشير إلى المضمون السياسي الذي يقف وراء الحملة على الفساد في تونس، وهي الإشارة التي تغمز، من طرف خفي، قناة يوسف الشاهد والرئيس الباجي قايد السبسي الذي أتى به إلى منصب رئاسة الحكومة، في خطوةٍ لم يتوقعها كثيرون.
وأيا يكن الحال، فإن تحليلات باتت تتحدث عن وظيفية هذه التوجهات، في بلادٍ شرعت تقترب شيئا فشيئا من موعد مفصلي، يمهد لآخر أكثر خطورة منه، وهو الانتخابات البلدية التي طال ترقبها.
انتخابات تقرّر مبدئيا إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل في ظل مخاض عسير شهدته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أظهر هشاشتها وترنّحها تحت وطأة الحسابات السياسية الهشّة التي أفرزتها، وهو الحال الذي ينطبق على باقي الهيئات الدستورية التي يفترض أنها من أعلى مكاسب الثورة في ظل التراجعات الدراماتيكية في مجالات أخرى، والضامنة نظريا استقلال مجالات الانتخابات والإعلام والقضاء ومكافحة الفساد عن السياسات الحكومية والأجندات الحزبية.
وفي ظل توقعاتٍ مختلفة بشأن التحالفات ومحاور الاشتباك، والنتائج المحتملة لموعد الانتخابات البلدية (المحلية)، وعلى مسافةٍ من توقعات متفائلة بأنها ستنجو من فيروس الاستقطاب السياسي الحاد، وتشرع في تحسين الظروف المعيشية المباشرة للتونسيين، تسربت السياسة بقوةٍ إلى مفاصل هذا الموعد الانتخابي، وبانت الرغبة الجامحة عند الفاعلين السياسيين، من مختلف المواقع، في استباق ذلك الموعد بمواقف وملفات تستميل الناخب التونسي.
ومع حالة الترهل التي أصابت حزب الرئيس التونسي، وفي ظل رغبة منه في احتذاء نموذج الزعامة التاريخية البورقيبية، بتسجيل اسمه في ديوان الزعامات التاريخية التي صدمت مجتمعاتها "بقراراتٍ ثورية تقدمية تنويرية".. ولدت مبادرة المساواة في الإرث وزواج المسلمة التونسية بغير المسلم".. حدث ذلك بالتزامن تقريبا مع الإعلان عن انتهاء تسجيل الناخبين في المعترك الانتخابي البلدي، مظهرا أرقاما ونسبا ذات دلالاتٍ بالغة الأهمية.
أظهرت تلك المعطيات عزوفا عاما عن التسجيل، وأبانت عن تفوق نسبة النساء بين المسجلين، وكشفت تدنيا مريعا في نسبة الشباب الذين قامت فئتهم بثورة 2011. وكان لافتا في أوساط "نداء تونس"، سواء التي بقيت في حزب الرئيس هذا أو التي انشقت وغادرت إلى أطر جديدة، مثل حزب مشروع تونس بقيادة المحسوب على أجندة دولة الإمارات في تونس، محسن مرزوق، غضبا من تحالف "نداء تونس" مع حركة النهضة ذات الخلفية الإخوانية، كان لافتا للانتباه، عند أغلب هؤلاء، تركيزهم على المرأة، واستحضار الموروث البورقيبي بدغدغة مطامحها وإثارة مخاوفها في الآن نفسه.
ولمّا كانت النخب اليسارية قد أتقنت، في أطوار مختلفة من الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد، توزيع الأدوار بين مكوناتها، برز الدور المتقدم الذي لعبته مستشارات قريبات من الرئيس الباجي السبسي في التقدم بالمقترحات القانونية المتعلقة بالمرأة في قضيتي الميراث والزواج، ويتعلق الأمر بالرئيسة السابقة لجمعية النساء الديمقراطيات، بشرى الحاج حميدة، وسعيدة قراش المعروفة بنضالها النسوي.
سرعان ما صنعت هذه الخطوة الجدل الساخن الذي شق تونس بالطول والعرض، ووضع حليف "نداء تونس"، حزب النهضة، في زاوية ضيقة تختبر مرونته وقدرته على تقديم تنازلاتٍ مريرة في سبيل تجنيب الساحة التونسية الاستسلام لمقاربات قصووية، لا تخفي رغبتها في تصفية المكون السياسي الإسلامي، رمزيا أو فعليا.
وعلى غير غرار المجتمعات الديمقراطية، جاء هذا الطرح فوقيا، بعيدا عن حراك فكري
وسياسي فاعل وناجح، بل إنه تم في فترة سيطر فيها اليأس والإحباط على الشباب والفئات الاجتماعية الفقيرة، وانتشرت الأسئلة بشأن مدى صلة هذه التغييرات المقترحة بهموم البلاد وأولوياتها، وبالمطالب الاجتماعية المشروعة التي حولها "نداء تونس" نفسه، ومن تحالف معه زمن حكومة الترويكا، إلى سوط ألهبت به ذلك التحالف الهشّ الذي أربكته الاضطرابات الاجتماعية، والقدرات التي أظهرتها المنظومة القديمة في إعادة إنتاج نفوذها وأدوارها.
والأكيد في كل ما سبق أن السبسي، بخلفيته القانونية، وهو المحامي والسياسي المخضرم، ومستشاريه "اليساريين"، سياسة أو اجتماعا، يدركون الفارق بين ما أقدم عليه بورقيبة في إصداره مجلة الأحوال الشخصية التي كلف بإعدادها زيتونيون (فقهاء جامع الزيتونة)، وإن عارضها بكل تأكيد زيتونيون آخرون، كما سجلت الذاكرة التونسية المعاصرة.
قوّت هذه المسافة وغيرها مخاوف لدى بعضهم بأن تونس بصدد مغامرة هي أبعد ما تكون عن الشروط الموضوعية لإنتاج التحولات التاريخية العميقة والفاعلة، وزادت هواجس من وجدوا فيها عودةً بتونس إلى مربع "صراع الهوية"، حيث تنقسم النخب وأتباعها بين من يرى نفسه مدافعا عما يعتبره "هوية البلاد وثوابت دينها" وفريق آخر نصّب نفسه ناطقا، بل ووصيا باسم "الحداثة والقطع مع الماضوية والتطرّف".
ولعله من الغريب ربما القول إن هذه القضية، وما نشب حولها من جدل، تنذر بما هو أبعد من محطة انتخابية، وما قد تفضي إليه من نتائج، فهي تعبر عن انقسام كبير تعيشه تونس حيال مستقبلها، وهي تقطع رحلتها نحو جمهوريةٍ ثانيةٍ، سجل دستورها مفارقاتٍ عميقة، طرفاها نصوص تؤكد على أن تونس دولةُ العربية لغتها والإسلام دينها، وأخرى تشدّد على مفهوم المواطنة والمساوة وحرية الضمير. فالذين يرابطون عند الأولى يذكّرون الجميع بمرجعية الإسلام، مع ما في طرحهم من مسارات بحث فيما ينطوي عليه من إطلاقاتٍ وموارد للتنسيب، مقابل الفريق الثاني الذي، وإن شرع يحتفي بالمساواة الموعودة للمرأة التونسية، بمناسبة عيدها، على الرغم من أنهم يعلمون أن في تونس مواطنين ومواطنات يدينون بغير دين الإسلام، ولا يتجرأ أحد على أن ينبس ببنت شفة بشأن أوضاعهم وحقوقهم وطبيعة القوانين الشخصية المطبقة عليهم، ومدى صلتها بمفاهيم الحداثة والتنوير والتقدّمية.