تونس... فشل الحراك الاجتماعي حين فشل اليسار في تونس

تونس... فشل الحراك الاجتماعي حين فشل اليسار في تونس

22 يناير 2019
+ الخط -
نجحت السلطة التونسية في تحويل يناير/ كانون الثاني وديسمبر/ كانون الأول، (أكثر شهرين برودة من حيث الطقس وسخونة من حيث الحركات الاحتجاجية على الواقع الاجتماعي والاقتصادي)، إلى مهرجان فولكلوري يستحضر فيه النشطاء المدنيون صولات سنوات مضت.

هذه المظاهر الاحتجاجية التي تواصل تكرار ذاتها بالتصورات نفسها التي أنتجت سيرورة قريبة من مسرحة الاحتجاج بشكل رديء فيه كثير من التخلي عن الهدف والعناية المشددة بالمظهر دون إتقان فكرة الترويج بأشكالها الحديثة..

فبتوفر الهواتف الذكية وتغلغل دور وسائط التواصل الاجتماعي في تحريك الوعي الشعبي في اتجاهات مختلفة، بدا بناء رأي عام واع بقضاياه الحقيقية أكثر صعوبة رغم ما لعبته العولمة بشكل لا مباشر، أي من حيث الثغرات التي توفرها للثوريين في الوصول لفئات كان في ما مضى يتطلب إيصال المعلومة لعقولهم يفترض تنقلا ميدانيا.

ولأن الاحتجاج ومقولات الثورة المواطنية الاجتماعية بجذور يسارية بحتة، سنسلط الضوء في هذه التدوينة على مواطن العجز ومسببات الفشل من وجهة نظر قريبة من أصحاب الشارع المحتجين.

لا يمكن إخراج تونس من سياقها العربي والدولي حين نطرح حلم الرفاه الاجتماعي وما فرضته العولمة في سياقات سابقة في أوروبا الشرقية، أوكرانيا وجورجيا، كمثال لا يحتاج الكثير من الدراية حتى يؤكد صراع العمالقة على مناطق النفوذ.


ليس الطرح من قبيل نظرية المؤامرة بقدر ما هو واقع يفرض وجوده، فالقيادات الثورية القادمة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا والتي استضافها الرئيس الأميركي الأسبق جورش بوش الابن، جلها تلقى تكوينا في جامعات أميركية، واستغل مشروع دعم الحرية الذي تبنته إدارة بوش آنذاك لإخراج أوطانه من دكتاتوريات عسكرية وموالية لروسيا الاتحادية.

في تونس اختلف الأمر في تفاصيله، أي أن من أنجز الانتفاضة أبناء الشعب المفقر، ومن يحكم البلاد هم موظفون سابقون في مؤسسات دولية وأميركية، من يوسف الشاهد الذي كان يتولى خطة وضع سياسات التعاون في ميدان الأمن الغذائي بين تونس والولايات المتحدة، ومهدي جمعة الذي كان مديرا لقسم الطيران والدفاع لشركة إيروسباس فرع المجموعة الفرنسية طوطال، وغيرهم ممن لسنا في سياق تعدادهم، بقدر ما هم دلالة على توجهات الحكم في تونس.

هذه الكفاءات ذات التوجهات النيوليبرالية تمكنت من افتكاك المشهد من جل القوى الوطنية التي شغلت "خطة المعارضة" زمن بن علي وبورقيبة، عدا حركة النهضة التي نجحت في ايجاد خيوط ربط لها معهم، وخصوصا أن معظم قياداتها ورئيسها من معارضي المهجر المبجلين.

فشل اليسار في انتخابات 2011، تلاه فشل آخر في 2014، وتعزز إبان الانتخابات المحلية 2018، لم يطرح سؤال "لماذا"، وسط التشكيل السياسي المعارض المسمى الجبهة الشعبية لاستكمال أهداف الثورة.

وواصل هذا الالتقاء الجبهوي مجاراة الواقعي بمعطيات ردة الفعل والتكرار، زادهم العجز عن ابتكار جملة سياسية متصالحة مع شعب يعتقد في جوعه تحت حكم المؤمنين، أكثر من رخائه تحت حكم "أعداء الله"، حسب ما يروج له الخصوم والأعداء السياسيين، وهذا يلمس مع كل موجة احتجاج لن يقودها غير أبناء الجبهة الشعبية، نظرا لعدم إيمان القوى السياسية الأخرى بقوة الشارع وعدم قدرتها على تحريكه.

هذا التفصيل المهم، يحيلنا على نقطة مهمة جدا، أولا أن الجبهة الشعبية تمتلك رصيدا من المناضلين النوعيين والمؤمنين بطروحاتها لم ينجحوا في إيصال خطابهم للجماهير، ويمكن الجزم بأن قواعدها المناضلة أكثر عدديا من كل الطيف السياسي الليبرالي. أي أن العطل في كيفية ولوج وجدان القواعد الانتخابية ما دامت قد انخرطت في لعبة الصندوق.

من شروط الامتداد الشعبي امتلاك وسيلة إعلام مؤثرة وتتبنى الخيار الوطني، هذه الوسيلة المستحيلة وفقا لتصورات بعض قيادات الجبهة يمكنها تخليصهم من مكائد الصحافيين، الذين فيهم من لا يفقه غير اتباع ما يدون له في الورقة التقنية لبرنامج يقدمه.

ولو التفتنا إلى الجبهة التي يقودها جون لوك ميلونشون بوسيلة إعلام "le media" التي تلعب دورا مهما كالذي لعبته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا، فهي تجربة مواطنية منسجمة مع الطرح الاجتماعي ذي البعد التضامني..

أما لو حاولنا خلق تجربة أكثر هروبا إلى الأمام في عالم التكنولوجيا وأقل كلفة من معدات واستديو لتصوير برنامج تلفزي واحد، فإن صحافة الهاتف الجوال من أقل الممكنات كلفة وأكثرها فاعلية. فوفقا لدراسة فرنسية، فإن متابعة الأخبار 80 بالمائة منها تكون عبر الهواتف الذكية، وتذهب أبعد لتؤكد على عصر المبحرين على الهواتف، عوض المبحرين على الإنترنت.

يبدو أننا من التكنولوجيا عرفنا "السيلفي" وتطورت عدسات هواتفنا الذكية خصوصا تلك الأمامية كثيرا، ولم ننجح في استغلال أي من ثغرات العولمة، فهل نحب المكان الذي نحن فيه ونرضاه بقية أعمارنا، أم نعد لتأبيد المعارضة؟ سؤال لن يُسأل إلا حين نكتشف جميعا أن لا مكان للمهاترات والتهريج والممارسة وفق الأهواء الخاصة، فالمسألة التواصلية خصوصا، واستحقاق التوقيع على اتفاقية الشراكة الشاملة والمعمقة بين تونس والاتحاد الأوروبي آت على عجل ضمن التزامات الحكومة الحالية، هذا الاتفاق الذي سبق لجورجيا توقيعه، وهي من بلدان الثورات الملونة، مع الفرق أن هذه الأخيرة تتمتع بإمكانية الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وتونس لا، مع المحافظة على بنود الاتفاق نفسها تقريبا.

أخيرا، فإن آخر المسامير التي تدق في نعش الاقتصاد الوطني ستوقع، وما من خطة واضحة لمواجهتها، فقط محاولات شبابية قد تنجح نسبيا في إماطة اللثام عن خبايا التخريب الممنهج لقطاع الفلاحة خاصة ثم الخدمات.
42ACCD04-4C2E-46D0-9BBA-43B220EF9F7D
محمد علي بو علاق

كاتب وحاصل على شهادة الماجيستير في الإعلامية، طالب سنة أولى ماجستير صحافة متعددة المنصات. لي رواية بصدد النشر. وناشط بالمجتمع المدني.