Skip to main content
تونس .. عن حروب الذاكرة وتصدّع الانتماء
محمد أحمد القابسي
أكدت الجلسات الطويلة والمملّة لمجلس نواب الشعب التونسي تحت لافتة "صراع اللوائح والصور" للتونسيين الذين يتابعها بعضهم بمرارة، أن أغلب النواب الذين انتخبوهم يعبّرون عن أوجاع ذاكرة جريحة انتقائية وحاقدة، لم تهضم التحولات التي وقعت في البلاد، وتصدر عن جهل بالمسار الحقوقي التحديثي الذي راكمته النخب التونسية عبر السنوات والعقود الماضية... ذاكرة لم تستوعب أن بداية علاج تعقيدات الماضي وجراحاته لا يمكن أن تتم بمزيد الحفر في جراح الذاكرة، بل بالتوجه إلى علم التاريخ الذي يتناسى الروايات القائمة على جراح الماضي أو يقلّل من شأنها، ذلك أن ما يبدو أزمةً هو في الواقع تحوّل طبيعي يجري في ظروف عسيرة.
كان العنوان الظاهر للجلسة العامة ليوم 9 يونيو/ حزيران الجاري طلب الاعتذار من فرنسا عن احتلالها تونس، في مشروع قرار مقدّم من كتلة ائتلاف الكرامة، وخرجت الجلسة عن مشاورات المؤرخين والديبلوماسيين ومؤسسة الرئاسة المسؤولة دستورياً عن العلاقات الخارجية والديبلوماسية، وكشفت عن هدف مبطن، عنوانه التموقع السياسي وتصفية الحساب بشتم وثلب رموز البلاد وشرعيتهم النضالية، والمجازفة بمصالح الحاضر مع المحتل القديم والشريك الاقتصادي الأول اليوم. وكشفت المداخلات عن خطاب انفعالي، يريد الانتقام والأخذ بالثأر، وهدم ما تراكم من منجز حقوقي تحديثي، تستحضر ذلك الخطاب المضاد لليسار الماركسي المحنط الذي رفض كل دور للحزب الدستوري التونسي وقادته في النضال، وللحزب الشيوعي التونسي، متهماً رواده بالعمالة، والاتحاد العام التونسي للشغل بالنقابات الصفراء.
لم يشذّ في سنوات السبعينيات التيار العروبي القومي عن هذه السردية التي خونت الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي "خان المعركة حين جعلها في إطار قُطري". وفي ثمانينيات القرن الماضي، التحقت بالركب في الجامعة التونسية طلائع الإسلام السياسي، رفضاً لدولة الاستقلال، انطلاقاً من مفهوم الأمة الإسلامية، متهماً زعماء الاستقلال بالعمالة للغرب والتبعية لسياساته وشروطه.
وقد أعادت هذه الجلسات في مجلس النواب التونسيين إلى ماضٍ تصوروا أنهم تجاوزوه، ولكنها
 عرّت جهل مقدميها بمسار المنظومة التحديثية والحقوقية التونسية، ما يحتّم العودة إلى مرتكزات هذا المسار والوقوف عندها، رداً للاعتبار، ومساهمة في إجلاء الوجه المشرق لهذا الماضي، وإن كان ذلك في عجالةٍ قد لا تتسع لمسار طويل، يسعى بعضهم إلى طمس مناراته لأسباب سياسوية وإقصائية بحتة. ويتجاوز مسار التحديث في مفهومه الشامل الرغبة المجرّدة في القطع المادي مع الماضي، متوجهاً إلى إعلاء جملة القيم التي ترتقي بالإنسان إلى بلوغ المستوى الأعلى للتطور، وكان من الأجدر أن يتمثل هذا التحديث بالتشريع في انصراف الإرادة الجماعية، من خلال ممثلي الشعب، إلى إنشاء قواعد آمرة، تقطع مع التبعية والانغلاق لإعلاء قيم الحرية والحق والمساواة والكرامة، وتشيع الاجتهاد والعقلانية والمعرفة. فالتحديث، إذن، هو تنقل الإنسان من لحظة الوجود إلى لحظة حسن الوجود. وبالتالي، يصبح التشريع الحداثي أداة تجسيم الإنسان إنسانيته على أرض الواقع. وفي الحالة التونسية التي يغيبها البرلمان حالياً، يعتبر إعلان الجمهورية في 25 يوليو/ تموز 1957 أول عمل تشريعي تحديثي تعلق بنظام الحكم، وذلك بعد إلغاء النظام الملكي الحسيني الذي حكم تونس منذ سنة 1705، فقد مثل اختيار النظام الجمهوري ثورة فكرية واجتماعية رائدة، قطعت مع السائد، وأرست نظاماً يرتكز على تفريق السلطات وسيادة الشعب والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وضمان استقلال القضاء والحريات وحقوق الإنسان. تعلم رواد الاستقلال، لأسباب تاريخية، في الجامعات الفرنسية، ولكنهم لم يكونوا عملاء لفرنسا.
وعلى الرغم مما لحق دستور الجمهورية الأولى من خيبة أمل، بإقرار الرئاسة مدى الحياة في الفصل الرابع، بموجب تنقيح (تعديل) 19 مارس/ آذار 1975، فإن إرادة التونسيين قد تعلقت بدستور 1 يونيو/ حزيران 1956 مكسباً لا محيد عنه، فرفضت التفريط فيه، واكتفت بتنقيح ما لحقه من خلل، ذلك أن الدستور قد اقترن إنشاؤه بالنضال الوطني، وكرّس في شأنه المبادئ الأساسية للديمقراطية الدستورية، ما سمح بإقامة جمهورية عصرية. وقد كرست دولة الاستقلال جهودها للقطع مع الحقبة الاستعمارية، وسعت إلى بناء نظام قوي يحفظ للدولة هيبتها ودورها الإنمائي الشامل، فعملت على توفير أسباب الأمن، واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب. ويعتبر قانون الأحوال الشخصية، وهو أكثر القوانين جرأة وتحديثاً، وهو القاضي بمساواة المرأة بالرجل، ومنع تعدد الزوجات، ومنحها حقها في التزوج متى بلغت سن الرشد (13 أغسطس/ آب 1957). كذلك مثّل قانون 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958 إجراءً تشريعياً تحديثياً متميزاً، بإقراره إجبارية التعليم ومجانيته وإشاعة الحق في الثقافة والانعتاق من الأمية.
لم يقتصر المسار التحديثي في تونس على الاجتهاد في الدين، بالاعتماد على مقاصد الشريعة، ولم يكتفِ بمسايرة العصر لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، بل تجاوزها إلى الحداثة السياسية، 
ومن عناوينها الأهم مجال الحريات وحقوق الإنسان وحماية الأسرة وتنظيم الحياة السياسية والمجتمع المدني، وإلغاء عقوبة الأشغال الشاقة، وتنظيم المجلس الدستوري (18 إبريل/ نيسان 1990)، وإقرار قانون التمثيل التعدّدي للعائلات السياسية داخل مجلس النواب والمجالس الدستورية والبلديات، وذلك بداية من انتخابات 1994، علاوة على إصدار قانون تمويل الأحزاب في 27 يوليو/ تموز 1997، وإقرار حق المواطن في التنظّم والانتماء الحزبي والمشاركة السياسية والاجتماعية، وذلك بما ضمنه قانون الأحزاب الصادر في 3/5/ 1988.
رافق هذا المنجز الحقوقي التحديثي نسيج جمعياتي مصون من الدولة ويحفظه القانون، ما جعله قواماً لمجتمع مدني يرفد حقوق الإنسان، ويدافع عن منظومته الوطنية، كما أقرها الفصل الخامس من دستور 1959، وضبطتها الاتفاقيات الدولية التي صدّقت عليها تونس. وقد أدركت الدولة الحديثة أن تحقيق المسار الحقوقي يمرّ حتماً عبر التثقيف والتبليغ، ولذلك كان الإعلام حقاً للجميع، ومن روافد التحول الديمقراطي والتنموي. وقد استندت شمولية هذه الإجراءات التحديثية إلى إرث إصلاحي تونسي عريق، تعود تباشيره الأولى إلى عهد الأمان (1857) ودستور 1861. وقد تتالت، منذ ذلك التاريخ، إسهامات المصلحين الرواد على غرار خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد والحبيب بورقيبة، وغيرهم من زعماء الجيل الأول لليسار التونسي وقادة الاتحاد العام التونسي للشغل، وخصوصاً الزعيم المؤسس فرحات حشاد، والزعيم أحمد التليلي ومحمود المسعدي وأحمد بن صالح، وغيرهم من الذين جاهدوا وناضلوا من أجل استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي، ثم كانوا أشدّ وفاءً لدولة الاستقلال ومساراتها المختلفة.
يظل التاريخ وأدواته إذاً الآلية الموضوعية لفهم أغوار الماضي، وتعقيدات تشكل أحداثه ومنجزات الفاعلين فيه. ولا يمكن أن تصدر لائحة تجريم فرنسا وطلب اعتذارها إلا عن ذاكرة مكلومة، بعيدة عن بوابة التاريخ، منهجاً وأداة. أما تجريم النخب والرموز الوطنية واتهامها بالعمالة والخيانة، فإنه ضربٌ من الشعبوية، وفصل من حروب ذاكراتٍ هي في تماسّ مع حروب هويات. ومؤلم حقاً أن تكون قبة البرلمان حلبة لهذه الحروب.