تونس... سياسيون ومثقفون والأدوار المتعاكسة

تونس... سياسيون ومثقفون والأدوار المتعاكسة

20 أكتوبر 2014
يتمتع المرزوقي بثقافة واسعة (ياسين غايدي/الأناضول)
+ الخط -

كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، مثقفاً على الرغم من أنه لم يؤلف أي كتاب، وكان كثير المطالعة ومتنوع المعرفة وله إطلاع واسع على التاريخ والأدب والجغرافيا إلى جانب القانون والسياسة. أما الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فكانت معارفه محدودة، ولا يحب مجالسة المثقفين، ويُقال إنه لم يكن يحترمهم ولا يرى فيهم سوى "قطع غيار" يساعدونه على تأمين القطاعات الحيوية في تسيير شؤون الدولة والإدارة ويغيرهم كلما تراجع أداؤهم أو شك في ولائهم. ومن شدة رغبته في أن يخلد ذكره، دفعت الدولة مالاً كثيراً للبعض حتى يبيضوا عهده.

اليوم، وبعد أن رفعت القيود أمام السياسيين وغيرهم، عاد الحديث عن "الرئيس المثقف"، ولم ترشح حركة "النهضة" أحداً في انتخابات الرئاسة لكن زعيمها، راشد الغنوشي، يعتبر من بين السياسيين غزيري الإنتاج في مجال التأليف. وقد صدرت له طوال مسيرته مؤلفات عديدة أعاد طباعتها في تونس بعد أن كانت ممنوعة، فهو يعتبر من بين نماذج المثقفين الذين تفرغوا للشأن السياسي.

كذلك شأن الرئيس الحالي، منصف المرزوقي، الذي يتمتع بثقافة واسعة، ومن شدة تعلقه بالكتابة لم يتوقف عنها حتى وهو يمارس الحكم في ظروف معقدة ومليئة بالتحديات. وهو ما جلب له انتقادات واسعة من داخل أوساط المثقفين ومن خارجها، بحجة أن مسؤولياته الراهنة تفرض عليه التفرغ لشؤون الدولة وليس للكتابة والتأليف، في حين أنه لا يوجد تضارب بين المهمتين. فمن حقه أن يخصص جزءاً من وقته، لمزاولة الهواية التي يعشقها. وفي هذا السياق، تكفي الإشارة إلى أنه أصدر بعد توليه السلطة كتابين جديدهما صدر بعد إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية.

أما رئيس حزب "نداء تونس" ورئيس الوزراء الأسبق الباجي قايد السبسي، فألّف قبل الثورة كتابه "الحبيب بورقيبة المهم والأهم"، سرد فيه تجربته وقدم شهادة عن حياة بورقيبة ومواقفه من خلال سيرته الذاتية. وهو كثير الاستشهاد في نشاطه السياسي اليوم بما أورده في الكتاب باعتباره حريصاً على التأكيد على أن حزب "نداء تونس" هو "وريث المشروع البورقيبي".

من جهته، عمد حمى الهمامي، بحكم نضاله الميداني كونه يسارياً شرساً ومعانداً، إلى كتابة كراسات عديدة، عكست مسيرته الفكرية وحددت اتجاه رفاقه الذين بقوا ملتفين حوله منذ انخراطه في النضال الميداني ضد الحكم البورقيبي في مطلع السبعينيات وصولاً إلى حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة.  ومن هذه الكراسات "ضد الظلامية" و"في اللائكية"، وهما عنوانان يعكسان الخصم الأيدولوجي والتوجه البديل للرجل.

ومن المرشحين أيضاً للانتخابات الرئاسية، المثقف والإعلامي الهاشمي الحامدي، الذي سبق أن أحدث المفاجأة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عندما برز أنصاره في قوائم "العريضة الشعبية" كقوة حزبية ثانية بعد حركة النهضة.

وعلى الرغم من أنه كان غزير الكتابة قبل أن يتفرغ لقناته التلفزيونية "المستقلة" التي تبث من لندن، إلا أن أطروحته الجامعية كانت عن حركة "الاتجاه الإسلامي"، وعمّقت الخلاف بينه وبين الحركة التي ترعرع فيها عندما نشر وثائق ومعطيات اعتبرتها الحركة من مصادر سرية أو أمنية، ولكن المؤكد أن الحامدي يتمتع بثقافة ملحوظة.

ومن الأسماء التي لفتت الأنظار قبل الثورة وبعدها الإعلامي والمثقف أحمد الصافي، المعروف باسم الصافي سعيد. ومن أشهر كتبه "بورقيبة... سيرة شبه محرمة"، وقد قرر خوض تجربة الترشّح بناءً على خلفيته الفكرية والسياسية.

وبعد الثورة، أصدر قاض وهو محام، يدعى محرز بوصيان كتاب "رؤيتي لتونس"، استعرض فيه الحلول التي يراها لمعالجة أهم المشكلات المطروحة حالياً على البلاد. بوصيان الذي تحمل مسؤولية رئاسة اللجنة الأولمبية اعتبر صدور كتابه مقدمة كافية لإعلان ترشحه لمنصب رئاسة الجمهورية.

وبقطع النظر عن التفاوت بين مختلف هذه الكتب ومؤلفيها إلا أنها تشكل ظاهرةً يتبين منها أن سياسيين تونسيين يعتقدون اليوم أن استعراض ما يملكونه من معرفة وثقافة قد يساعدهم في الإقناع بأنهم الأكثر جدارة للجلوس في قصر قرطاج، وأقدر على إدارة شؤون البلاد بعد سنوات طويلة من الحكم القائم على العنف وخبرات التكنوقراط.

لكن، هل تكفي المعرفة وحدها لتكوين قائد سياسي ورجل دولة ناجح، هذا سؤال من بين أسئلة عديدة تطرحها التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس، إذ لا شك في أن الرئيس المثقف يشكل إضافة مهمة للعمل السياسي، لكن ذلك لا يضمن بالضرورة النجاح في الحكم.

وقد تجعل السياسة الخالية من الثقافة صاحبها جاهلاً بالأبعاد الانسانية والحضارية للسياسة فيميل ميلة واحدة نحو العنف والفساد والمناورة والخديعة، ويرى فيها أدوات ناجعة للمحافظة على السلطة، لكن في المقابل فإن ثقافة من دون قدرة على التوليف بين مقومات أي سلطة مستقرة المتمثلة في كسب الشرعية، القدرة على الوفاء بالعهود، التمتع بالحد الأدنى من الكاريزما، حسن التعامل مع مؤسستي الجيش والأمن، بناء الثقة مع رجال الأعمال، وتحقيق التوازن مع الدول الأكثر تأثيراً على مستقبل البلاد، تصبح في غياب ذلك كله ترفاً، أو مجرد سباحة ضد التيار.

في كل الحالات، لا تزال النخب السياسية والثقافية في تونس تمرّ بسنتها الأولى ديمقراطية، والمؤكد حالياً أن السياسة لا تزال مهيمنة على الشأن العام، وفي كل مرة تحاول الثقافة أن تستقل بذاتها وتبني سلطتها المعرفية، إلا وجاءت السياسة لتوجه إليها ضربة موجعة تعيد حشرها من جديد في الزوايا المظلمة للصراع.