تونس: خطابات تهدئة سياسية بانتظار جولة تصفية الحسابات؟

تونس: خطابات تهدئة سياسية بانتظار جولة تصفية الحسابات؟

06 سبتمبر 2020
خلال مراسم تسليم الفخفاخ مهامه للمشيشي (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -

خرج الخطاب السياسي في تونس عن السيطرة وتجاوز كل الخطوط الحمر والمناطق المحرمة، ولم يعد السجال السياسي دبلوماسياً ولا رمزياً، وانتهى زمن التلميح وتحوّل إلى التصريح والتهديد المباشر، ولم يبق إلا ملء الفراغات بالأسماء والدخول إلى فصل المعركة الجديد وربما الأخير.

وجاء خطاب الرئيس التونسي، قيس سعيّد، خلال مراسم أداء اليمين الدستورية لوزراء حكومة هشام المشيشي، الأربعاء الماضي، ليفتح النار على الجميع، موجهاً تهماً بالخيانة والكذب وحتى بالارتماء في أحضان الصهيونية، ومهدداً بكشف المستور ذات يوم. وقال إنه لن يتسامح في ما يتعلّق بحق الشعب التونسي "فإما حياة تسرّ الصديق، وإما ممات يغيظ العدا"، وفق تعبيره.

وأضاف سعيّد أنّ "الشعب التونسي يعلم كل ما حصل ولم تعد تخفى عليه خافية"، وتابع: "سيبقون عبرة لمن يعتبر، سيبقون كعروش نخل خاوية ليس لهم مكان". وختم بأنه "من خان وطنه وباع ذمته وخان الأمانة، مصيره مزبلة التاريخ".

حمل الخطاب تهديدات مباشرة واتهامات خطيرة، من "خيانة وارتماء في أحضان الصهيونية ومؤامرات في غرف مظلمة"، وهي الاتهامات التي قال الرئيس إنه يعلم تفاصيلها وسيكشفها ذات يوم. وخرجت قوى سياسية تهلل وتدعو سعيّد إلى كشف هذه "المؤامرات"، لتصب الزيت على النار، علّها تستفيد من خصومة الرئيس مع منافسيه في معركة كسر العظام المتواصلة منذ أشهر، غير عابئة باستقرار البلد في الداخل، ولا بالرسائل التي توجهها هذه الخلافات إلى كل المؤسسات في الخارج.

ومع تسلّم الوزراء مهامهم الجديدة، بدأت تنكشف تفاصيل ما حدث نهاية الأسبوع الماضي، وتأجج الخلافات وتصفية الحسابات بين الأحزاب.


الهاروني: كل محاولات استبعاد الأحزاب من الحكومة فشلت

وخرج رئيس مجلس شورى حركة "النهضة"، عبد الكريم الهاروني، ليؤكد أنّ كل محاولات استبعاد الأحزاب من الحكومة فشلت. وأضاف أنّ "حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب أرادا إقصاء النهضة من الحكم، فأقصيا أنفسهما وعادا إلى المعارضة بعدما رفضا التصويت لصالح حكومة المشيشي".

وأوضح الهاروني في حديث لإذاعة "شمس" المحلية، أول من أمس الجمعة، أنّ الأمين العام للتيار الديمقراطي المستقيل، الوزير السابق المكلف بالوظيفة العمومية ومكافحة الفساد، محمد عبو، "حاول إفشال حكومة الحبيب الجملي بالتحالف مع حركة الشعب وحزب تحيا تونس". وتابع "هذه الأحزاب أثبتت أنها غير ديمقراطية".

وكشف الهاروني أنّ "هناك من فكّر في اجتماعات رسمية باعتماد الفصل 100 من الدستور بهدف عدم منح الثقة لحكومة المشيشي ووضع رئيس الحكومة السابق الياس الفخفاخ في السجن، واستبداله بشخصية أخرى، مع استمرار حكومة تصريف الأعمال"، مشيراً إلى أن هذه المحاولات "فشلت جميعها". وينصّ الفصل 100 من الدستور على أنه "عند الشغور النهائي لمنصب رئيس الحكومة، لأي سبب عدا حالتَي الاستقالة وسحب الثقة، يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الحاكم بتكوين حكومة خلال شهر. وعند تجاوز الأجل المذكور من دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على الثقة، يكلف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتتولى تكوين حكومة تتقدم لنيل ثقة مجلس نواب الشعب طبق أحكام الفصل 89". كذلك ينصّ الفصل المذكور على مواصلة الحكومة المنتهية مهامها، تصريف الأعمال تحت إشراف عضو منها يختاره مجلس الوزراء ويسميه رئيس الجمهورية إلى حين مباشرة الحكومة الجديدة مهامها.

وقال الهاروني: "عندما نلاحظ وجود غضب لدى رئيس الجمهورية وفي البرلمان وفي الشارع التونسي، فإن الوضع غير طبيعي، لذلك لا بد من العودة إلى الهدوء والتهدئة". ورأى أن العودة إلى الهدوء "تكون باحترام كل طرف لصلاحياته، وباحترام مؤسسات الدولة والعمل في إطار الشفافية والوضوح".

وتتالت دعوات التهدئة، على الرغم من أنها لا تتجاوز مجرد خطابات متعارضة كلياً مع الممارسات. وفي هذا الإطار، قال رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ، إنه "بعد تجربة قصيرة، تكوّنت لديه قناعة بأنه لا يمكن حلّ المشاكل الاقتصادية ومسألة النمو والفقر والبطالة والتهميش والتفاوت الجهوي، طالما لم يتم ترشيد الحياة السياسية والعمل على أخلقتها وحمايتها من المال الفاسد وتحمل الجميع المسؤولية". وأضاف الفخفاخ في كلمة خلال حفل تسليم السلطة لرئيس الحكومة الجديد هشام المشيشي الخميس الماضي، أنّ "تونس اليوم تتهددها الفئوية والنزعة نحو ترجيح المصالح الضيقة". وتابع أنّ "تونس ينخر جسمها فساد استشرى وامتزج بالسياسة، وأصبح يقال دولة الفساد باقية وتتجرأ وتتحدى وتتمدد".
وأضاف أنّ "المرعب أكثر تدخل أطراف خارجية وقدرتها على تحريك الوضع الداخلي من خلال عناصر تابعة لها"، معتبراً أنّ "الوطن بصدد الضياع بين أيادي الانتهازيين، وحان وقت تحرّك القوى الوطنية لتستعيد الوطن من براثن الجشعين العابثين لأنّ الصمت اليوم غير مقبول".

من جهته، انتقد الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، الوضع، قائلاً إنّ "المناخات المتشنجة جعلتنا لا نصل إلى تحقيق الأهداف أو بعث إشارات إيجابية إلى كل فئات المجتمع". وشدد الطبوبي، في كلمة خلال مراسم تسليم السلطة لحكومة المشيشي، على "ضرورة إيجاد أصوات حكمة وعقل"، داعياً إلى أن "يعود الجميع إلى رشدهم ويضعوا أمامهم مصلحة البلاد".

وفي تعليقه على خطاب سعيّد، قال الطبوبي إنّ "ما قاله الرئيس ليس من فراغ، وبالتأكيد لديه مدعماته ومؤيداته، وأتمنى أن يسمي الأمور بسمياتها حتى نعرف كل الحقائق ومع من نبني هذا البلد الجديد".

وفي المناسبة نفسها، أكد رئيس حزب "تحيا تونس"، رئيس الحكومة الأسبق، يوسف الشاهد، أنّ "أي رئيس حكومة يعمل في أجواء متوترة مهما كانت المدة، لن يحقق شيئاً، وطالما لا يوجد توافق سياسي عام، فالنتائج لن تكون في المستوى المطلوب". وتابع الشاهد "لذلك طلبنا من المشيشي تهدئة الأجواء السياسية".

أما رئيس الحكومة الجديدة، هشام المشيشي، فأكد أنّ حكومته تشكّلت "والبلاد تشهد وضعاً غير مستقر، وفي ظلّ انتظارات كبيرة للمواطنين لتغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية". وأضاف المشيشي خلال تسلمه السلطة من الفخفاخ أنّ "المناخ الصعب الذي نشأت فيه الحكومة لن يثنيها عن بذل كل الجهود لإيقاف النزيف الاقتصادي ومساعدة البلاد على النهوض واسترداد أنفاسها المنهكة".


الغنوشي: تونس تحتاج إلى هدنة اجتماعية وسياسية واستقرار أمام التحديات الضخمة

بدوره، قال رئيس مجلس نواب الشعب، رئيس حركة "النهضة"، راشد الغنوشي، إنّ "تونس تؤكد على أن الديمقراطية تنضج. وعلى الرغم من أننا نريد الاستقرار، ولكن أن يكون هناك تداول سلمي على السلطة فهو مظهر من مظاهر الحضارة وتعبير عن الديمقراطية". وأكد الغنوشي في كلمة خلال حفل تسلّم المشيشي السلطة، أنّ "تونس تحتاج إلى هدنة اجتماعية وسياسية واستقرار أمام التحديات الضخمة التي تواجهنا وتتطلب الالتفاف حول الحكومة".

وشدّد الغنوشي على ضرورة إيجاد الاستقرار في البلاد والتداول سلمياً على السلطة، وقال: "أن تسقط حكومة برفع الأصابع وليس برفع الأسلحة، فهذا مظهر من مظاهر النضج والحضارة، وستبنى عليه تونس الجديدة وتحقق التقدم والازدهار''.

وفي تعليق على هذه الدعوات، قال المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "دعوات التهدئة والهدنة السياسية التي أطلقتها الأحزاب مفهومة بعد الصراع المحموم الذي دام طويلاً وأنهك جميع الأفرقاء السياسيين. واليوم بعد أن نجحت الأحزاب في حماية البرلمان، آن لها أن ترتاح وتضمّد الجراح قبل بداية فصل جديد من الخلافات لا نعلم متى سيندلع تحديداً، ربما مباشرة بعودة الحياة البرلمانية في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، أو عند طرح مشروع تعديل بعض وزراء الحكومة، كما اتفق عليه الائتلاف الجديد (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة)".


المؤدب: تجمع الأحزاب ضدّ ما يهدد كياناتها ووجودها ظرفي ووقتي

واعتبر المؤدب أنّ "دعوات الأحزاب البرلمانية للتهدئة مردها إلى شعور زعمائها بالنصر والفوز في معركة كسر العظام مع الرئيس التونسي، وهو الشيء الذي وحّد الفرقاء تحت قبة البرلمان ضدّ التوجه غير المفهوم لسعيّد باقتراحه حكومة ثمّ معارضتها. غير أنّ تجمع الأحزاب ضدّ ما يهدد كياناتها ووجودها ظرفي ووقتي، ينتهي بزوال الخطر المحدق بها، لتشرع عما قريب في حرب التموقع وبسط نفوذها على حكومة المشيشي بشكل أو بآخر".

ورأى المؤدب أنّ "خطابي الفخفاخ وسعيّد لا يسرّان ولا يبشّران بخير قريب، فليس كافياً إعلان الأحزاب النوايا بالتهدئة في وضع سياسي متفجّر، ولا يستقيم الحديث عن استقرار بين الرمال المتحركة وفوق أرضية رخوة، ما يقودنا إلى استخلاص قراءة متوجسة للوضع". وتابع: "هذه الدعوات غير البريئة والاتفاق المريب حولها، ليست سوى جولة ثانية أطلقتها الأحزاب للثأر من الرئيس الغاضب المهزوم بحشره في زاوية إثارة الاضطرابات والفتنة السياسية بعد أن كسبت جولة أولى تحت قبة البرلمان".