تونس بين الدولة المدنية والعسكرية

تونس بين الدولة المدنية والعسكرية

11 ديسمبر 2018
+ الخط -
في إحدى محطات الرحلة البحثية في أوروبا، كانت لدي رغبة ملحة في زيارة تونس، فهي تجربة مختلفة عربياً، أبقت ثقافة الربيع العربي قائمة، لكنها أشركت جزءًا من نظام الرئيس بن علي، مثّل فيها الرئيس الباجي قائد السبسي أبرز واجهات تلك الطبقة والمرحلة الصعبة، بعد اغتيال المناضل شكري بلعيد، وفضّلت حركة النهضة حينها الافتراق عن الرئيس السابق المنصف المرزوقي، والذي عُرف بقيمه النضالية والقيمية، وورعه الاقتصادي، على الرغم من مزاجيته الحادّة.
وإن كان قرار النهضة في حينه، أمام الحملة العنيفة ضدها والاتهامات السياسية، يتوجه عن عمد لهيكل من النظام السابق، لمراعاة قسم من الرأي العام التونسي الذي فضّل أن يكون جزء من النظام القديم حاضراً في مشهده الانتقالي، وتونس حينها تعيش تحت ضغط نموذج الانقلاب المصري، المعزّز بدعواتٍ راديكاليةٍ علمانية حاشدة، لتكرار مشروع التجريف الذي قادته أبوظبي والرياض.

غرقت تلك الدعوات التي انفصلت عن قيم اليسار التي نعرفها في مسار العدالة الاجتماعية في حماية مصالحها الأيديولوجية اللائكية، والتي دمجت في ما بعد بالليبرالية الغربية للحياة الشخصية، واعتبرت عنواناً رئيساً للحرية، وليس دولة المواطنة الحقوقية التي تؤسس أولاً لحق الشعب في تأسيس أدواته الدستورية وتفعيلها، من الحكم السياسي المنتخب حتى حق الخبز.
ولأجل تحقيق هذه الزيارة، والتأكد من مضامين رسائل تلك التجربة، التقيت، عبر صديق مشترك، بشخصية من حركة النهضة التونسية مقيمة في السويد، وسألتها عن إمكانية ضمان الأمن لزيارتي في تونس، بعد أن استلم علي العريض وزارة الداخلية، ثم رئاسة الحكومة، وإن كان في حينها قد استقال من رئاسة الحكومة بعد ضغطٍ شرس، استثمره الرجل المخضرم، القائد السبسي، وانتهى إلى ما أظنه هدفاً مرحلياً للرئيس. اعتذر الرجل، بسبب موقف الحكومة السعودية من شخص مهنا الحبيل، وقال لي، في الحقيقة، إن هذه الوزارة وعمقها التاريخي أعقد وأكبر من أن تضمن فيها "النهضة" وغيرها تعديلات تؤمّن المواطن العربي الزائر الذي تتعقبه المخابرات العربية، شكرته وأبديت كامل التفهم، والتقدير للكرم والروح التونسية الدافئة في ثلوج السويد.
وقبل ثلاثة أسابيع، نشرت صحيفة "العربي الجديد" عن ملاسنة عنيفة شنّها حزب نداء تونس، ضد حركة النهضة والشيخ راشد الغنوشي شخصيا، كون أن الأخير نعى الشهيد جمال خاشقجي، وشارك أصدقاءه بعض المشاعر والمطالب الحقوقية، على الرغم من أن النعي كان حذراً، وسبب الحذر مجمل علاقة الحركة الإسلامية، على الرغم من التوترات المتفاوتة مع الدولة السعودية، وتجنب استفزازها. وهي علاقةٌ تحتاج دراسات عميقة، من النفوذ السعودي السياسي، إلى الاختراق الوهابي الجزئي أو الكلي للإسلاميين، وإن كان في المغرب العربي يقلّ عن غيره، قبل قرار إعلان الحرب الشاملة على "الإخوان المسلمين، الذي اتخذه ولي العهد السعودي.
وتبرز حملة "نداء تونس" التي جاءت باسم "مشاعر ومكانة الشقيقة السعودية" مساراً آخر، لا يمكن تغييبه بناء على رفض نقابة الصحافيين وغيرها زيارة ولي العهد السعودي، ومع تصاعد الخلاف والانتخابات الرئاسية المقبلة، صدر من الرئيس الباجي السبسي تصريح خطير، يشير إلى تهديد مباشر بمطاردة أمنية وتعقب لحركة النهضة، في تصعيد سياسي ممنهج لجريمة اغتيال شكري بلعيد.
لا يمكن عزل هذا التهديد عن سياق الاستهداف الأمني، وليست المسألة مطروحةً هنا خيارا حتميا، وإنما للإشارة إلى استدعاء هذا التعاطي، في الخطاب السياسي التونسي، والاستهداف الأمني، أو أجوائه، ضد حركةٍ ذات جماهيرية واسعة كحركة النهضة، فضلا عما تعنيه هذه اللغة أو الإجراءات التي قد تتم، كمواجهة عنيفة لا تتم إلا في أجواء عسكرية.

وليس المقام هنا التهويل، ولا الجزم بتوجه الرئيس السبسي، ولا موقف القوات المسلحة التونسية، وإنما الإشارة إلى القضية التي يبني عليها السبسي و"نداء تونس" تهديدهما، فهل الخلاف اليوم هو ضمن دولة مدنية، بالمعنى التوافقي، حتى مع بقاء الأفق العلماني للدولة، أي أنها تنظّم مشروع صناعة تونس الحرة من جديد، وتبدأ بتأمين التصويت الحر والقضاء المستقل غير المسيس، ثم تشكل المؤسسات عبر انتخاب الإرادة الشعبية، ومنح مساحة الحريات الشخصية، من دون الحاجة إلى قهر الناس في الأحوال الشخصية الذي يعتبر ضمن اختياراتهم الحرة؟
مساحة التوافق لهذه الدولة المدنية واسعة، وقد اتخذت حركة النهضة وحلفاؤها مساراً مرناً، لأجل تثبيت السلم الأهلي، وما تبقى من الثورة، ولأن التجربة الفكرية لديهم تقوم على إعادة فهم مقاصد الشريعة ومراعاة الأولويات الوطنية، فما الذي يدفع السبسي إلى رفض هذه التوافقية، وتشجيع المشهد للتحول إلى مواجهة فكرية سياسية، ببعد أمني سياسي ورد في تهديد الرئيس؟
نموذج الدولة التي تستدعي الخلاف الفكري، وقضايا الصراع حول قانون الأحوال الشخصية، وتستمد شرعية المواجهة من تشجيع الراديكالية المتطرفة لأي توجه، ثم تأمين المواجهة بالسور الأمني والعسكري، هو روح دولة عسكرية، وليست مدنية، فالقمع أو التهديد بالقمع، ليس نموذجاً لصراع مدني مشروع، وربط الموقف من الحريات بفرض قوانين شخصية، لم تكتمل إرادة الشعب حولها، لا يعني أنه تطوّر مدني حقوقي، بقدر ما هو تحفيز صراعي.
ولسنا نتحدث عن حق كل تيار في رؤيته بين العلماني والديني، وإنما في ما يمثله هذا التفويج أمام حق المواطن الآخر، خصوصا حين يقول السبسي (حكاية آيات القرآن) في معرض رفضه المفهوم الإسلامي، وهو مصطلح لا يتلفظ به رئيس أي حكومة أوروبية مراعاةً للمسلمين من شعبه، فكيف بتونس، فكم يمثل التيار العلماني الراديكالي؟ وكم يمثل من يخالفه من متدينين أو تكنوقراط بما فيهم الفكر العلماني المدني الذي لا يرى أن مصارعة جمهورٍ من مسلمي تونس أولوية، وهو ما يشير إلى المشترك مع العهد الاستبدادي للرئيسين، بورقيبة وبن علي، فهل رحل رجال بن علي أم هم العائدون؟