Skip to main content
تونس.. أهداف الثورة المعلّقة
أنور الجمعاوي
تطوي تونس السنة الثامنة من عمْر ثورةٍ غيّرت المشهد السياسي في البلاد، وخرجت بالنّاس من حيّز الأحادية إلى زمن التعدّدية، وانتقلت بهم من وطأة الحكم السلطوي، المؤسّس على هيمنة الزعيم/ الفرد إلى رحاب الحكم الديمقراطي، القائم على إشراك المواطنين في الشأن العام، وتحكيم الشعب في اختيار مصيره السياسي، وانتخاب ممثليه عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. ويُعدّ ذلك نموذجا مميّزا للتداول السلمي على السلطة. وقد مثلت الثورة نقطة تحوّل فارقةٍ في تاريخ تونس الحديث، فمع انطلاقتها، تحرّر الفعل الاحتجاجي من الكمون والتردّد. كما دشنت لعلاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم، تهاوت إثرها صورة الدكتاتور ومتعلّقاتها في الوعي الجمعي. وبلغ التونسيون شأواً معتبراً في مجال الدمقرطة، والاحتكام إلى الدستور وإشاعة الحرّيات العامّة والخاصّة. لكن في المقابل، ما زال الأداء الاقتصادي للثورة محتشما، وما زالت مطالب كثيرة للثوّار معلّقة، فمطلب التشغيل ما زال يُراوح مكانه، وفكّ العزلة عن المناطق المهمّشة ما زال حلما بعيد المنال، وتحقيق العدالة الانتقالية ما زال معطّلا. وفي المقابل، ما زال جلّادون ومفسدون كثيرون، ووجوه العهد القديم، يهيمنون على المشهد، ويتصدّرون منابر الإعلام، ويتحصّنون بالإفلات من العقاب.
في مستوى التشغيل، لم تتمكّن تونس بعد من بلورة حلولٍ ناجعة لمعضلة البطالة، فعدد العاطلين عن العمل يُقدّر بحوالي سبعمائة ألف شخص، بينهم حوالي مائتي ألف من خرّيجي الجامعات،
 وتقدّر نسبة البطالة سنة 2017 بـ15.5% من مجموع السكّان المؤهّلين للعمل، وترتفع النسبة إلى ما بين 30% و40% بعدد من المحافظات الداخليّة. وتُعدّ فئة الشّباب الأكثر عرضةً للبطالة، وورد في أحدث مسح ميدانيّ عن التّشغيل، صادر عن المعهد الوطني للإحصاء أنّ حوالي 70% من مجموع العاطلين عن العمل من فئة عمريّة لا تتجاوز 30 سنة. والبطالة من أشكال تهميش الشباب في تونس، ومن الأسباب الرّئيسيّة التي أدّت إلى اندلاع الثورة، واشتعال فتيل الاحتجاجات. واستمرار انغلاق أبواب التّشغيل أمام الشباب، وانتشارالمحسوبيّة واستشراء الفساد الإداري والمالي، وتأجيل انتداب أصحاب الكفاءة، يورث هذا كله إحساسا بالظّلم، وشعورا بالسّخط لدى كثيرين ممّن طالت بطالتهم. وينصرف، نتيجة ذلك، بعضهم إلى الاعتصام أو التظاهر، في حين يعمد آخرون إلى ركوب قوارب الموت بحثا عن شغلٍ يضمن الكرامة، فيما ضاقت الأرض بغيرهم، فسلكوا مسالك الجريمة المنظّمة، أو
انخرطوا ضمن شبكات الإرهاب الدوليّة. لذلك، الحاجة أكيدة إلى بلورة إستراتيجيات إدماجية، تهدف إلى تمكين الشباب في سوق الشغل، وذلك ممكنٌ من خلال تطوير البرامج التعليمية وخدمات التوجيه المهني ودورات التأهيل للانخراط في سوق الشغل، وتعزيز الدور الاجتماعي/ الاستثماري للدّولة، بإحداث مشاريع إنتاجية جديدة، موجّهة إلى السوق الاستهلاكية الداخلية أو الخارجية، وتكون جاذبة لليد العاملة الشابة.
وبعد ثماني سنوات من الثورة، لم تنل بعد المحافظات الداخلية، والطرفية، حظّها من التنمية الشاملة، بل ما زالت تقع ضمن دوائر التهميش، وتعاني ويلات ارتفاع نِسَب الأمّية، والفقر، والبطالة والتسرّب المدرسي. وتفتقر إلى المرافق الأساسية، مثل البنى التحتيّة، والخدمات الصحية، والمؤسّسات التعليميّة، على الرغم من أنّ الدستور التونسي الجديد نصّ على ضرورة إعمال سياسة التمييز الإيجابي في خصوص مناطق الظّل تلك. ولا يُعرف، على جهة التدقيق، مصير المخصّصات المالية والمساعدات العينيّة التي وجّهتها الحكومات المتعاقبة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي إلى تلك المحافظات. والمرجّح أنّ تلك المناطق تعاني محلّيا من الفساد المالي، وسوء التصرّف الإداري، وتهيمن عليها بعض اللوبيات البيروقراطية القديمة. وغالبا ما تُوظّف مناطق الظلّ سياسيا من أطرافٍ حزبيّة ونقابية، لتكون خزّان احتجاج شعبي ضدّ سياسات الحكومة. كما لا تلتفت إليها أحزاب الائتلاف الحاكم، إلّا زمن الحملات الانتخابيّة، وهو ما جعل سكّان تلك الجهات يشعرون بالغُبن والضّيم في آن، ويجدون أنفسهم مخيّرين بين لزوم أوضاعهم المُزرية أو مغادرة أراضيهم وركوب موجات النزوح نحو المدن الكبرى، أو ركوب قوارب الهجرة غير النظامية نحو أوروبّا. لذلك، الحاجة أكيدة إلى إصلاح أحوال سكّان تلك الجهات، وتوفير لوازم العيش الكريم لهم، وتشجيع المستثمرين على التوجّه 
نحوهم، وإحياء روح المواطنة عندهم، عسى أن يستعيدوا ثقتهم بالدولة.
وفي سياق آخر، لم يتحقّق بعد مطلبا العدالة وإنصاف ضحايا الاستبداد، وهما من المطالب التي ينادي بها الثوّار، وذلك في ظلّ تعثّر مسار العدالة الانتقالية، وكثرة العراقيل التي واجهتها هيئة الحقيقة والكرامة التي لم تجد التعاون المطلوب من أجهزة الدولة ومؤسساتها التنفيذية، وهو ما أثّر سلبا على مسارات التقصّي، وكشف الحقيقة. ويُلاحظ المتابع لهذا الشأن غيبة الرئاسات الثلاث عن أطوار مشروع العدالة الانتقالية، وكذا عدم حضور مرتكبي الانتهاكات جلسات الاستماع، وعدم استجابتهم لدعوى المثول أمام الدوائر القضائية المختصّة. ويؤدّي ذلك إلى تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، ويزيد من معاناة الضحايا وإحساسهم بالحيف، قبل الثورة وبعدها. ويُفترض أن تستخدم الدولة صلاحياتها، لتدفع نحو محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وتقديمهم إلى العدالة، ويُفترض أن تعتذر الدولة لضحايا الاستبداد، وتأذن بجبر ضررهم مادّيا ومعنويّا، حتى يستأنفوا حياتهم، ويشعروا بجدوى الانتماء إلى الجمهورية الثانية.
صحيحٌ أنّ الثورة في تونس أزالت، إلى حدّ ما، الخوف، وأدّت إلى تراجع القمع، وانحسار سطوة الرئيس، والرقيب والبوليس، ومعها تحرّرت الأقلام الناقدة، وانتشرت ثقافة الاحتجاج، وأصبحت السياسة شأنا عامّا، وأصبح الحكم تمرينا عاديا، يتداول عليه المتنافسون في كنف السلام والديمقراطية، ولا يحتكره طرفٌ واحد. لكنّ الثابت أيضا أنّ بعض أهداف الثورة ظلّت معلّقة، ولم تجد بعد طريقها إلى التطبيق. والمطلوب الخروج بتلك الأهداف من حيّز الوعد والشعاراتية إلى رحاب العمل المنجز، عسى أن تتحقّق العدالة والحوكمة، وتترسّخ اللامركزيّة، وتعمّ التنمية الشاملة على نحوٍ يجعل المواطن يثق في الدولة، والثورة، ومشروع الدمقرطة.