تونس .. أزمة فعلية أم مفتعلة؟

تونس .. أزمة فعلية أم مفتعلة؟

19 يونيو 2020
+ الخط -
يتصاعد الحديث في تونس عن الأزمة الحادّة التي يشهدها الوضع السياسي في البلاد، في ظل حالةٍ من التجاذب بين الأحزاب ومواقع السلطة المختلفة، سواء بين رئاستي البرلمان والجمهورية، أو في عدم انسجام أحزاب الائتلاف الحكومي التي تبدو متناقضة السياسات والتوجهات، وتتبادل الاتهامات في سوء الأداء، وتتنازع في تحميل المسؤوليات، بالإضافة إلى الفوضى التي يشهدها مجلس النواب بشكلٍ أصبح يعطل أعماله المعتادة، وحوّله إلى ساحة صراع فعلي لتسجيل المواقف، وإفشال اللوائح المتبادلة التي لا علاقة لها واقعيا بمشاغل المواطن التونسي، بقدر ما تساهم في إشاعة حالة من الاحتقان، سواء مع دول الجوار الجغرافي، أو هي في أحسن الأحوال تكشف عن سوء تمثل للدبلوماسية البرلمانية، إلى الحد الذي جعل تونس تفقد عمليا أي تأثير لها في الملف الليبي، على الرغم من أهميته بالنسبة للمشهد التونسي.
تجليات ما يسميها بعضهم حالة الأزمة، والتي دفعت الرئيس السابق للمجلس التأسيسي، مصطفى بن جعفر، إلى دعوة رئيس الجمهورية إلى تنظيم حوار وطني، من أجل مصالحة وطنية في ظل الوضع السياسي المتأزم الذي تعيشه البلاد، مشبها إياه بما وقع في سنة 2013. وإذا أضيفت إلى هذا النداء محاولات الاعتصام الفاشلة، وسعي أشخاص موالين لقوى إقليمية، معروفة بعدائها للثورة التونسية، إلى إثارة الفوضى وتحريض الشارع على التمرّد، يكون مشهد الأزمة قد اكتمل، وأصبح مسيطرا على الأذهان باعتباره حقيقةً واقعةً يردّدها الإعلام ويناقشها السياسيون.
الواقع أن تفكيك خطاب الأزمة يكشف عن جوهرها بوصفها أقرب إلى حالة دعائية مما هي واقع، وهو ما يجعل منها أزمة مفتعلة، أكثر مما هي تعبير عن انسداد أفق سياسي لنظام عاجز عن تصريف أزماته. وعلى الرغم من أنه لا أحد في وسعه الزعم أن النظام السياسي التونسي ما بعد الثورة مثالي، إلا أن من الأكيد أن بنيته الدستورية تحفظ الحد الأدنى الضروري من الحريات، وتؤسّس لمنظومة حقوقية، تمنع عودة الاستبداد، وتحظر انتهاك حقوق الإنسان، بغض النظر عن أفكاره أو توجهاته السياسية. ومن الأكيد أن المدوّنة القانونية تحتاج إلى مراجعاتٍ، سواء للقانون 
الانتخابي أو قانون الإعلام وغيره، إلا أن أي مراجعةٍ لا ينبغي أن تمرّ إلا إذا كانت في اتجاه تعزيز مزيد من الحريات ودعم منظومة الحقوق الأساسية. ويمكن لأي متابع موضوعي أن يلاحظ أن مناهضي النظام السياسي الحالي، وهم في غالبهم من أنصار منظومة الاستبداد التي كانت قائمة قبل ثورة 14 جانفي (يناير) 2011، يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة، بل ويدعون علنا إلى إطاحة النظام السياسي من دون خشية على أنفسهم. وسواء تعلق الأمر بدعواتهم المتكرّرة إلى الفوضى في الشوارع، أو إلى ما يختلقونها من أزمات داخل البرلمان الذي يوجدون فيه، فإنهم في النهاية يتمتعون بالحد الأقصى من الضمانات الحقوقية التي وفرها لهم النظام السياسي الذي يحاولون الانقلاب عليه، في مفارقةٍ عجيبةٍ تجمع بين ادّعاء فشل النظام السياسي الحالي، وفي الوقت نفسه، الاستفادة من الحقوق والحريات التي يضمنها. وهي الوضعية نفسها التي تنطبق على الأحزاب السياسية التي تدعم الاستبداد خارج تونس، فيما تتمتع هي بالحريات داخل هذا البلد، فنواب حركة الشعب ذات التوجه القومي الذين يعلنون تأييدهم نظامي بشار الأسد في سورية وعبد الفتاح السيسي في مصر وخليفة حفتر في ليبيا يدركون قبل غيرهم أن النظام السياسي التونسي الحالي، لو كان مستنسخا من الأنظمة التي يدعمونها، لما كان لهم فرصة الوجود في البرلمان أو المشاركة في الحكومة.
أكيد أن الديمقراطية تتضمن إمكانية سوء استعمالها، وأن لا علاج لما يصيب جسم النظام 
الديمقراطي من فيروسات الاستبداد إلا بمزيد الحريات وتوسيع مجال المشاركة الديمقراطية، فالأزمات الحالية المفتعلة لا تعود إلى بنية النظام الديمقراطي، كما يحاول بعضهم إيهام الناس، وإنما إلى محاولات تخليق الأزمات الطارئة، إما لعداء متأصّل لدى أصحابها للديمقراطية ذاتها، وبالتالي هو يعمل على تقويضها من داخلها، أو بسبب النزعة الانقلابية خدمة لأجنداتٍ خارجيةٍ تحاول تدمير النموذج الديمقراطي في تونس الذي أصبح مزعجا لجزء من النظام الرسمي العربي، ولمنظومة الاستبداد التي يقتات منها.
تعود محاولة تأزيم الوضع السياسي في تونس إلى رغبة أطراف سياسية، يشارك بعضها في السلطة، سواء من خلال حضوره في البرلمان أو مشاركا في الحكومة أو مؤيدا لرئيس الجمهورية الذي يبدو عليه أنه غير مقتنع بدوره الذي حدده الدستور، وهو ما يتجلى في ردود أفعاله، وفي تصريحات المحيطين به ممن لا يخفي بعضهم التحريض على المنظومة السياسية الحالية. وعلى الرغم من كل هذا الدفع نحو التأزيم، ظل النظام السياسي التونسي يعمل بكفاءة، مستوعبا كل الاختلافات، ومنفتحا على الاجتهادات المتنوعة والمتعددة، بل وقادرا على تصريف الأزمات، بما فيها النزعات الانقلابية وعشّاق التوجهات الاستبدادية، وهذا ما يؤكده استمرار الانتقال الديمقراطي في تونس، على الرغم من كل الصعوبات والإكراهات.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.