تونس: "انقلاب" الساعات الأخيرة لصالح المشيشي

تونس: "انقلاب" الساعات الأخيرة لصالح المشيشي

02 سبتمبر 2020
تعهد المشيشي بالعمل مع جميع الأحزاب (الأناضول)
+ الخط -

في ظرف 72 ساعة شهدت مشاورات تشكيل الحكومة التونسية انقلابات متتالية غيّرت مجرى التحالفات، بما قد يمهّد لتغيير قواعد اللعبة السياسية في تونس وتوازناتها الماثلة منذ الانتخابات الأخيرة، في خريف العام الماضي. وكما لم يغفر رئيس الجمهورية قيس سعيد لحركة "النهضة" خطيئتها في اختيار الحبيب الجملي رئيساً للحكومة، تلقّفت الحركة بدورها خطيئة سعيد في اختيار هشام المشيشي وندمه المتأخر على هذا الخيار. وستسعى مع حلفائها الجدد إلى استعادة المبادرة واحتضان رئيس الحكومة الجديد وافتكاكه من القصر، بما سيفتح أبواب معركة سياسية جديدة في البلاد ومواجهة بين الطرفين لا يمكن التكهّن بنتائجها. وعرض المشيشي، أمس الثلاثاء برنامج حكومته أمام البرلمان قبل أن تنال الثقة بعد ساعات من النقاش

 

 

وتعهد المشيشي، الذي ضمن منذ ليل الإثنين - الثلاثاء، حصوله على أصوات كتلة "النهضة"، بالتعاون مع الجميع، ملمحاً إلى إمكانية إجراء تحوير وزاري وتعديل في حكومته عكس ما أعلنه سعيد، مشيراً إلى أن الحكومة ستعمل وفق آلية لتحقيق الأهداف. وفي تشخيصه للوضع السياسي قال المشيشي "إنّ تشكيل هذه الحكومة يأتي في ظرف يتّسم بعدم الاستقرار السياسي، فبعد مرور عشرة أشهر على تنظيم الانتخابات التشريعية، تتقدم ثالث حكومة لنيل ثقة مجلسكم، في وقت بلغت فيه قدرة الشعب التونسي على الصّبر، حدودها".

 

 ولم يكن مرور المشيشي عادياً في البرلمان أمس، خصوصاً بعد الخلاف الكبير الذي طرأ على علاقته بسعيد، حسبما كشفت صحيفة "العربي الجديد"، يوم السبت الماضي. وذكرت مصادر حزبية في حينه، أن سعيد حاول إبعاد المشيشي من خلال استبداله، أو الإبقاء على رئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، وإبراز نيته في إقناع الأحزاب بإسقاط حكومة المشيشي في البرلمان. وزاد هذا الوضع من توجس الأحزاب من سعيد ومشاريعه، وقد يدفعها إلى محاولة احتضان المشيشي وحكومته والمصادقة عليها، ضمن اتفاق معه على منحه فرصة في أفق زمني محدد يجري بعدها بحث برنامجه وتفاصيله. وبرز ذلك، في موقف رئيس حزب "قلب تونس"، نبيل القروي، أول من أمس الإثنين، حين كشف إثر اجتماع المجلس الوطني لحزبه، أن رئيس الجمهورية قيس سعيد طلب منه ومن حركة "النهضة" إسقاط حكومة هشام المشيشي، مشيراً إلى أن سعيد اقترح عليهما مواصلة حكومة تصريف الأعمال لمهامها من دون رئيسها إلياس الفخفاخ. وأضاف القروي في تصريحات صحافية، أن رئيس الجمهورية عيّن شخصية غير معروفة لتكوين الحكومة لم تخترها الأحزاب وبعد شهر ندم على خياره، منتقداً بشدة عدم دعوة حزبه لمشاورات تشكيل الحكومة وعدم التفاعل معهم بخصوص اختيار الشخصية الأمثل لتكوين الحكومة. وشدّد على أنه إذا "لم يعترف رئيس الجمهورية بحزب قلب تونس فلن يعترفوا به أيضاً"، مضيفاً أن رئيس الدولة "لم يعد رئيس كل التونسيين، فقط هو رئيس التونسيين الذين صوتوا له والمحيطين به". ولفت القروي إلى أن سعيد اختار شخصية إلياس الفخفاخ التي تشوبها شبهات الفساد ليكون رئيساً للحكومة، والأخير بدوره وضع في الحكومة أعضاء حزب "التيار الديمقراطي" مثل محمد عبو وغيره، ممن يقومون بالتغطية على فساده وخروقاته، وفي الوقت نفسه يواصل قيس سعيد استقباله ويفكر في تمديد مدة توليه لرئاسة الحكومة رغم ثبوت فساده، خلافاً لشخصية المكلف بتشكيل الحكومة هشام المشيشي الذي لا يملك سنداً، إلا أنه "رجل محترم بخلاف الفخفاخ" بحد وصف القروي.


سعى سعيد لإسقاط ترشيح المشيشي في الأيام الأخيرة

وأضاف رئيس "قلب تونس" أن الفخفاخ الذي عيّنه سعيد جاء لتحقيق مصالحه الخاصة وليس للاستجابة لمصلحة التونسيين، بحسب تعبيره. ودعا القروي، رئيس الجمهورية، في تعليق على تصريح الأخير "بأن الحكومة يجب أن تمر من دون تحويرات بعد مدة وجيزة"، للاحتفاظ بنصائحه ومقترحاته لنفسه واحترام حدود صلاحياته، وأن لا ينتظر أن تتم استشارته في تغيير بعض وزراء حكومة المشيشي. وشدّد على أنهم في مؤسسة دستورية وسيمارسون صلاحياتهم مع حلفائهم بالبرلمان من دون خوف، عبر تسمية من يرونهم مناسبين لتقلد مناصب بوزارات سيادية، خصوصاً أنهم يعلمون جيداً كيف تم تعيينهم. وقال القروي: "وزراء السيادة لم يتم اختيارهم من المشيشي ونعرف كيف حصلت مسخرة اختيارهم". وهاجم القروي مديرة ديوان رئيس الجمهورية، نادية عكاشة، متهماً إياها بـ"فرض وزراء على رئيس الحكومة المكلف في منتصف الليل، مما أدى إلى تأخير إعلان تشكيلة الحكومة إلى ما بعد منتصف الليل". وأضاف أن رئيس الجمهورية "متذبذب ولا يستقر على رأي وبعد دعمه المشيشي غيّر رأيه وأصبح يريد الحفاظ على حكومة الفخفاخ أو تغييره بشخصية أخرى". أما رئيس حركة "النهضة"، راشد الغنوشي، فوجد نفسه مساء أول من أمس الإثنين في وضعية صعبة للغاية، فإما التقارب غير المضمون مع سعيد من خلال الاستجابة لطلبه بإسقاط حكومة المشيشي، أو الذهاب للمحافظة على المشيشي كما يدعو لذلك حليفه "قلب تونس" الذي يريد إبعاد الفخفاخ بأي وسيلة وفي أقرب وقت. ويبدو أن النقاشات داخل "النهضة" في ذلك الظرف الزمني الوجيز، شدّدت على عدم الوثوق بسيناريو سعيد، رغم عرضه عليها إعادة كل وزرائها إلى الحكومة وربما منحها حقائب أخرى أيضاً، حسبما أكده مصدر من الحركة لـ"العربي الجديد"، الذي قال إن قيادات كثيرة شدّدت في نفس الوقت على عدم خسارة الحليف، "قلب تونس"، مرة أخرى، وأن الجبهة البرلمانية الجديدة (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وكتلة المستقبل ومستقلين) أكثر أماناً وأشد أهمية لمستقبل المشهد السياسي وتوازناته المستقبلية. في المحصلة، فشل سعيد في إسقاط المشيشي، وربما يكون تلقى ضربة سياسية موجعة بتراجعه عن شخصية اختارها بنفسه ودافع عنها، وربحت الأحزاب التي تم تهميشها جولة في هذا الصراع المفتوح، وتغيرت المواقف بشكل متسارع. وأصبح الرافضون لحكومة المشيشي أكثر المدافعين عنها، بينما انقلب عليها داعموها، إلا أنها تبقى انتصارات وهزائم مؤقتة، لأن المعارك المقبلة ستكون أكثر ضراوة، سياسياً ودستورياً. سيراقب التونسيون كيفية تشكّل موقف سعيّد مع حكومة لا يريدها، خصوصا بعد تلويحه بوضوح إلى أنه لا يمكن تغيير فريق المشيشي، وسيكون في المقابل على الجبهة الجديدة أن تسرّع بتركيز المحكمة الدستورية حتى لا يبقى سعيّد "نبي الدستور الوحيد" على حد توصيف أحد القيادات الحزبية، وإيجاد محكّم محايد يفصل في هذه النزاعات التي لا تنتهي بخصوص تأويل البنود الدستورية. ولكن الأسئلة المهمة تتعلق بالمشيشي نفسه، فأين سيكون تموضعه وسط هذه الخلافات الحادة بين البرلمان والرئاسة، وهل سيتكئ على الجبهة الجديدة أم سينقلب عليها كما فعل أسلافه (رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والفخفاخ مع النهضة)؟ وما هي فرص نجاحه الفعلية في وضع وصفه أمس الثلاثاء بنفسه بأنه صعب للغاية ولم يحقق آمال الناس وانتظاراتهم.