توقيع الكتاب أم محاولة لتوقيع الكـاتب!!

توقيع الكتاب أم محاولة لتوقيع الكـاتب!!

26 نوفمبر 2015
توقيع الكتاب أم محاولة لتوقيع الكـاتب! (Getty)
+ الخط -
"إذا كان ثمة تحرر عبر الكتابة، فهو ليس بالكتابة ذاتها، بل في هذه المُشاركة مع أُناسٍ مجهولين في تجربة مُشتركة " آني إرنو.

ليس ثمّة ما يُقال وأنتَ تقفُ على منحى الدّفاع عما تحبّ بالانقضاض على ما ارتضى أن يقبلهُ. يمكننا الآن أن نشعر بالغرابة الممددة بيننا  وبين من نعرفهم كتّابا وبين من نكاد نتعرف عليهم مروجين لأعمالهم. حاولت أن أستطعم لذّة حفلات توقيع الكتاب لكنني فشلت، ففي مجتمعات تضم قراء مقنعين بالقراءة، نستطيع أن نعتبر جزءا من هذه التواقيع وقوعاً للكاتب. في المعرض تقترب مني بعض الفتيات لأختار لهن أيّ رواية على ذوقي. إلى حدّ السّاعة الأمر رائع لكن المشكلة أنني سمعتهن يسائلن "كيف نخرج من معرض الكتاب دون اقتناء كتاب؟". وقد عزز هذا نظرتي، بينما كنتُ أتّجه نحو بوابة المعرض يُقاسمني الطريقَ المُغادرون منه وقد قلّ لناظري من كان يحمل كتاباً هم القادُمون منه خاليين من بصمته، فقد تحوّل المعرض إلى مِهرجان للفُرجة وتقاسم طاولات الأكل، أكثر مِنه ما استحدث لأجله "الكتاب" وكأنّنا في حاجة ماسّة لغذاء البُطون أكثر من حاجتنا لغذاء العقول. لكن فجيعتي فيمن يشتري الكتاب حياءً ممن حوله لا حياءً من نفسهِ ومن الكتاب ذاته أكثر. تقول فيرجينيا وولف: "نظر الغُرباء بعضهم إلى بعض وفكّروا بالموتى". كذلك رأيت الكُتب على الرّفوف كالغريبة تنظُر إلى  بعضها البعض وتُفكر في موتاها، فعن أيّ توقيع نتحدث أيُّها السّادة الكرام؟ إنّنا في مُحاولة منّا لتكريم الكِتاب نوحّله وبمحاولة تكريم الكاتب نُهينه، حينما يُجر إلى معرض يكادُ جازماً أنّه بعد أن كان لبّه أصبح وسِيلته. ما الذّي سيحدثُ له إذ قادته قدماه خارجاً ليجد الكثيرين بدل أن يُعانقوا كُتبهم ويجالسوها يجلسُون عليها، في منظر أكادُ أجزم أنّه شنق للكِتاب والكَاتب سويّة، فعن أيّة حفلات توقيع بقُراء سيئين نتحدث؟ إنّها حفلات توقيع فعلاً إذا أكدّنا على فعل الوقُوع.


في موقفٍ هزليّ يكاد يتّسم بالغرابة يُسحب الكاتب من عالمه، من أماكنه التّي أثثناها له، إلى تلك التي أثّثها له الّتجار، ويوضع إلى جوار مزهرية تذبل زهورها بعد ساعات، هو البستانيّ الذي تعرفنا معه على خلود تفتح الحدائق، يسحبُ إلى طاولة مفتوحة على كراسي تكادُ من ثقل فراغها أن تنكسر لتتّضح الحَسرة كوليمة كامِلة الدّسم لكُتاب كانوا يُطلقون من أعالي شُرفاتهم حبالاً كاملة من البلاغَة، لنصعد إليهم مُحمّلين بدهشة المعاني نحن الفاغِرين أفواهنا للمزيد. ما الذّي يحدثُ حينما نكتشفُ أنّ الطريق اليوم أصبح مجرد طريقة، وأنّها مجرد مسرحيّة تخلو من جُمهورها إذْ واجبٌ على الكاتب مُمارسة أدواره لآخر مشهد؟ فهل حقاً كان  ينُقص عمَله حضُوره؟ أم أنّ حضُوره كان ينقُص القرّاء للالتفات إلى أعماله؟ هل نحتاج إلى العُثور على كُتّابها أكثر من حاجتنا  للتّعثّر بنا فِيها؟

الأعمال كالأطفال تخلقُ صغيرة، لا في تركيبتها، بلْ فيمن يراها. بداية لا تظهر سوى للقابلِة والأم، ثم بعدها للأقرباء وتُواصل النّمو والظُّهور واستقطاب الأنظار، حتّى منَ المجهُولين و الغُرباء، إنّها لا تحتاج سوى إلى مُتّسع من وقت ميلادها ليتسنّى لها الظّهور بكامل لياقة قراّئها، فحسبُني أنَّ العمل الأوّل لا يُوقّع إنّه هو ذاته الّتوقيع، وعلى هذا العالم الجديد أن يتعرّف عليكَ من خلاله لا أن يتعرفوا عليه من خلالك، إن الأعمال تحتاجُ أنْ تكبر لتظهر، تكبر بالإعارة، تكبر بأحاديث القرّاء عنها للآخرين، تكبُر بأن يُغلق قارئ ما في بقعة بعيدة عملكَ ويُطلق زفرة: "لو أنّ هذا لم ينتهِ يا الله"، القارئ المجهول الذّي يؤمن بكَ رغم أنّه لن يلتقيكَ، تكبُر بعدد سنين بقائها على قيد التداول من جيل إلى جيل، العمل الجيد كالمرأة الجميلة يُصعبُ على الحياة حجبُها، يكبر مع تقدُّم القُراء إليه لا بتقديمِه للقُراء، على الكاتب أن يغازِلنا و يغزُونا وعلينا أن نحبه غرباء ومجهولين .

أما القراء السيئون فإنّهم يخونون الكَاتب ويخونون الكِتاب، أولئك الّذين بدل أن يقتنوا العَمل، يقتنون التّوقيع، وبدل أن يلتقطوا وعيهم، يكتفون بالتقاط صورة لهم مع الكاتب. إنّهم يُفضلون ظهورهم كقراء على أن يصبحوهم فعلاً. هم يرون في الكاتب مجرد تاجر يريد الخلاص من سِلعته، إذ في عالم التّجار النجاحُ يعني تصريفها كيفما شاء الطّلب دون أن ندري أنّه يُكرّم الكِتاب بحصوله على قارئ صادق، لا مشترٍ مُقنَّع بالقراءة.

توقيع الكتاب فكرة جميلة لا يمكن الوثوب إليها دون قراء صادقين، لا يمكنك وأنتَ تعِدّ طاولتك لأول مرّة في مدينة ما، تدعو إليها جمعاً من الغرباء، أن تقتنع بحضُورهم كلّهم، فثمّة من لا يغلبهم الحياء بقدر ما يغلبونه فلا يأتون، وآخرون يأتوننا مغصوباً عليهم، يلبّونها من باب أن لا يردوننا، وكلاهما  غائبان فلا يكفي أن تحضر لتثبت أنّك حاضر، ولا يكفي بإعدادك طاولة أن تملك الشارع، إذْ يمكن لصحن فعل ما لم تفعلهُ طاولة، فالطعام الجيد كالكتاب الجيد تتناقله الأحاديث ويذاع صيته، إذ نتعلم باستدعائنا إياهم إلى ولائمنا وكأنما نلزمهم بقول أنّ ما نقدّمهُ ألذ، في حين من يستدلون علينا ممن يحملون نكهتنا يعثرون عليهم فينا، فالكتابة طريقة حياة مثلما قال فلوبير نتخذها وننتظر هل نُتّخذُ لأجلها.

لطالما آمنت أنه حتى الكاتب يموت كاسم، كما يموت جسد أي إنسان، يموت  كما يموت الرسام وهو يرى لوحته تُحمل داخل عربة بجوار خضار، يموت وهو يراها تعلق على حائط يفيض باسمه لا عمله، كذا يحدثُ للكاتب فور يصبح توقيعه أثمن من عمله، لذلك من لا أقتني عمله في غيابه لن أقتنيه بحضوره. إنني بهذا أهين الكاتب عينه.

ندركُ متأخرين أنّ أولئك الذين يتلهفون لاقتناء أعمالنا بحضورنا ليسوا قراءنا، هم ليسوا إلا جامعي التّواقيع، أولئك الذين يختارون الظهور أمامنا عراة من كلّ عناويننا إلا من أسمائنا، أولئك الذين نعوّل على جيوبهم في ابتياع أفكارنا بحضورنا. وإنما ندرك جيدا أنهم يفضلون على أعمالنا التقاط صورة معنا، وأن جلّ ما كان لنا أن نفكر فيه هو أننا وقعنا بأعمالنا من قلوبنا، وأننا حينما كتبنا كنا نضع في كل كلمة جلّ مكنوناتنا، دموعنا، بسماتنا، حسراتنا، تنهيداتنا، وخبرة سنواتنا وبحوثنا. بالمختصر، كنا نضعُنا فهل يوقع الكاتب مرتين لأجلنا؟ أنحتاج لحبر أقلامهم أكثر من حاجتنا لحبر أرواحِهم؟ ما أسخفنا.

(الجزائر)

دلالات

المساهمون