توزيع الدخل والثروة في الوطن العربي

توزيع الدخل والثروة في الوطن العربي

18 فبراير 2016
إفرازات سوء توزيع الدخل والثروة خطيرة (Getty)
+ الخط -
يُقال إن الدول الأوروبية، وخصوصاً شمال أوروبا، تتمتع بأحسن توزيع للدخل بين دول العالم. ويستدل من الأرقام المتاحة أن نسبة دخل أغنى عشرة في المائة إلى أفقر عشرة في المائة في هذه الدول لا تتجاوز 1:7، وحتى أن بعضها، مثل السويد، ربما يكون 1:5.
أما في الوطن العربي، فليست هنالك إحصاءات منتظمة عن توزيع الدخل. ولكن، تجري بين حين وآخر مسوحات بالعيّنة، أو استنتاجات مبنية على تحصيلات ضريبة الدخل، أو من المعلومات عن الاستهلاك الأسري، تعطي فكرة عامة في سنةٍ ما عن توزيع الدخل في دولةٍ عربية ما.
وعلى الرغم مما يحيط بهذه الدراسات من أسبابٍ للتشكك في دقتها، ودقة الاستنتاجات عنها، إلا أن النتائج ليست مطمئنة. ففي دراسةٍ عن توزيع الدخل في الأردن، تبين، مثلاً، أن نسبة دخل أغنى عشرة في المائة إلى أفقر عشرة في المائة تساوي 1:23 قبل سبع سنوات، ولربما ازدادت سوءاً في السنوات الأخيرة.
وعندما كانت حكومة الدكتور، عبدالله النسور، تسعى، في نهاية عام 2012 إلى بناء قناعةٍ، من أجل إعادة تسعير المشتقات النفطية في الأردن، بهدف استرداد التكاليف، وجدت أن معدل استهلاك أغنى عشرة في المائة في الأردن من البنزين يساوي استهلاك أفقر 40%، علماً بأن عدد أفراد الأسر الفقيرة أكبر من عدد أفراد الأسر الغنية، لكن الفرق يعود إلى عدد المركبات المملوكة من قبل الأسر الأغنى وحجمها ونوعها.
وفي دول الخليج، لا تكاد هذه الدراسات تكون موجودة، وإن أجريت، فإن عدداً محدوداً من نتائجها يوزع أو ينشر. ولكن، هنالك مصادر أميركية تقول إن نسبة دخل أغنى عشرة في المائة في دولة، كالمملكة العربية السعودية، قد تتجاوز 1:73 من دخل أفقر عشرة في المائة. وفي الدول الأصغر، قد تصل هذه النسبة إلى أكثر من مائة ضعف.
وحتى في دول المغرب العربي، فإن النسبة تتراوح بين 1:30 إلى 1:40، وكل هذه الأرقام في الوطن العربي تعطي، بشكل عام، مدلولات خطيرة على مستوى العدالة في الوطن العربي، وخصوصاً من منظور توزيع الدخل.
وقبيل الربيع العربي الذي انطلقت أحداثه في أواخر عام 2010، كانت بعض الدول العربية، مثل تونس ومصر، تحقق معدلات نمو سنوية مرتفعة، كان صندوق النقد الدولي يثني عليها. ولكن، ثبت، بالدليل الواضح، أن توزيع هذا النمو مترجماً إلى دخل على مختلف فئات الشعب كان يزيد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً.
ومما يؤكد هذه الحقيقة أن توزيعاً آخر لا يقل أهميةً قد أخذ منحىً أكثر خطورة، وهو توزيع الثروة. ولو قبلنا بالإحصائية الدولية التي صارت متداولةً في المراكز البحثية ومحطات التلفزة الدولية، بأن أغنى واحد في المائة في العالم يحوزون على 99% من ثروة العالم، فإن هذا تطور خطير يعكس ضيق فرص الفقراء في المستقبل، لتحسين أوضاعهم ومداخيلهم وندرتها، فالثروة أساس الدخل.
تدل المؤشرات المتاحة في الوطن العربي على أن توزيع الثروة، أيضاً، أسوأ من توزيع الدخل. فالحكومات التي تسيطر على أهم مصادر الدخل، كالنفط والغاز، في دول الخليج، وبعض المعادن في دول أخرى، قد أوجدت طبقة من المستفيدين الكبار، القريبين من مركز صنع القرار. ويكون هؤلاء مع الوقت مراكز نفوذ سياسي، ويطوّرون أدواتهم للتأثير على صنع القرار من رشوة وتحالف لمنع المنافسة، وتدخل في اختيار الأشخاص للمناصب العليا، ومما يضمن لهم الاستمرار في الاحتفاظ بالمكاسب التي حققوها وزيادتها على حساب الباقين.

في الدول الصناعية، نمت الثروة لدى أقلية استثمرت في التكنولوجيا، والصناعات الجديدة، والخدمات الإلكترونية المتطورة، خصوصاً في قطاعات الاتصالات والمصارف وشركات التأمين، وفي الاستثمار العقاري ووسائل تمويله المتطورة.
وفي الدول غير الصناعية، مثل دول الوطن العربي، نتجت معظم الثروة عن بيع الموجودات الثابتة (العقار والأرض والخصخصة)، أو عن منح امتيازات احتكارية للفئات المقربة من الحكم، أو عن طريق الإبداع بفتح أسواق جديدة أمام السلع، أو عن طريق الحصول على عطاءات حكومية كبيرة، سواء في قطاع الإنشاءات، أو في التزويد للحكومة، خصوصاً السلع والخدمات الدفاعية والأسلحة.
وبالطبع، هنالك أمر آخر، لا يجوز إغفاله، وهو سرعة نمو القطاع غير الرسمي. ولهذا القطاع وجهان. الأول مشروع مثل قطاع الزراعي المعفي من الضرائب والمدعوم، أو بناء أبنية وفتح مشروعات صغيرة غير مرخصة، وبدون علم الجهات الرسمية. وفي زمن الحروب والقلاقل والهجرات الجماعية الإجبارية، تتطور هذه الأسواق والفعاليات بسرعة (كما هو حاصل نتيجة ال هجرة السورية حالياً داخل سورية وفي الدول المجاورة)، ولكن معظم هذه الفعاليات تمارس نشاطاتٍ، وتقوم بأعمالٍ يمكن ترخيصها لأنها، في الأساس، مباحة ومشروعة. أما الجانب الآخر فهو الأعمال الإجرامية المنظمة وغير المنظمة، مثل التجارة بالمخدرات، والرقيق الأبيض، والأطفال، والأعضاء البشرية، والسلاح، والإرهاب وغيرها.
وسواء كانت هذه الممارسات في القطاع غير الرسمي مشروعةً، أم غير مشروعة، إلا أنها تسهم في تكوين طبقات جديدة من أغبياء لا يبدو عليهم الغنى. وفي كل القطاعات غير الرسمية، من الزراعة المشروعة إلى المخدرات غير المشروعة، تنشأ قوى احتكارية، تمتلك أموالاً طائلة وثروات غير محددة، تنشأ عن تبييض الأموال، أو امتلاك العقار.
في هذه الظروف النكدة التي يحياها الوطن العربي، برز أغنياء حرب جدد، وأغنياء نفط جدد، وأغنياء مخدرات جدد. وقد أدى هذا الأمر إلى تقلص الطبقة المتوسطة تدريجياً إلى تراجع أعداد الواقعين فيها، فالغنى المفرط والفقر المدقع يعملان معاً ضد الطبقة الوسطى المبدعة والخلاقة، وحاملة التراث، وبانية الأمن والأمان في المجتمع. وتؤكد الثورات التي حصلت في العالم أنها، إنْ لم تكن ضد غزو خارجي أو قوى خارجية مستعمرة، فإن من أسبابها هو ذلك التفاوت الكبير في الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء.
وبالطبع، كرّس تفاوت الثروة في الوطن العربي ظاهرة أخرى، لا تقل خطورة عن تقلص الطبقة المتوسطة، وتغيير مكونها. هذه الظاهرة هي الربعية، أو زيادة أعداد الأفراد المعتمدين في دخلهم على ما تقدمه الحكومة أو القطاع العام لهم من رواتب، أو فرص العمل غير المنتجة، أو المعونات الشهرية، أو الهبات. وتدفع هذه الأعطيات إلى الكثيرين إلى عدم الإقبال على العمل الأصعب والأشقى في القطاع الخاص، بل التركيز، بكل الوسائل، للحصول على وظائف غير مكلفة جهداً وعقلاً في القطاع العام.
إن إفرازات سوء توزيع الدخل والثروة خطيرة، وتستحق مزيداً من الدراسات المتعمقة والإحصاءات الرقمية الدقيقة. وحتى في غياب المعلومات عن هذين المؤشرين، في زمن المعلوماتية، فإن الشواهد على سوئها كبيرة، وتترك آثار أقدامها على الأرض، لمن أراد أن يشاهدها ويتعظ منها.

اقرأ أيضا: إعادة إعمار الوطن العربي

المساهمون