تهاوي الأحزاب التونسية

تهاوي الأحزاب التونسية

25 سبتمبر 2018
+ الخط -
على الرغم من مرور ثماني سنوات على خلع بن علي، لا تزال الأحزاب في تونس هشّة وضعيفة، وتعاني من داء الانقسام والتذرّر. أغلب التنظيمات الموجودة تأسست حديثا، ولقليل منها تاريخ وتجارب في التعبئة والتنظيم والانضباط الحزبي. وباستثناء حركة النهضة التي تمكّنت من المحافظة على تماسكها ووحدتها، فإن بقية الأحزاب شهدت انقسامات عميقة أضعفتها، وحولت بعضها إلى غبار من الأفراد. ولم يسلم من ذلك حتى حزب نداء تونس الحاكم الذي نجح في قلب موازين القوى خلال انتخابات 2014، لكنه اليوم يفقد مواقعه بسرعة داخل البرلمان وخارجه.
‎تكتسب هذه الظاهرة أهمية قصوى، عندما تتهيأ البلاد لخوض خامس انتخابات برلمانية ورئاسية خلال السنة المقبلة، وهي انتخابات حاسمة، نظرا لتفاقم الأزمة الاقتصادية، وازدياد عزوف التونسيين عن المشاركة في التصويت بسبب الخيبات المتتالية.
‎هناك أحزاب كانت صغيرة، ثم نمت بعد الثورة بسرعة عجيبة، نقلتها إلى السلطة، قبل أن يتراجع حجمها بالسرعة نفسها، لكي تعود إلى ما كانت عليه من حيث الحجم وعدد المنخرطين. من الأمثلة على ذلك حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والذي استقطب جمهورا واسعا، جعله يحتل المرتبة الثالثة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، فشارك في حكومة الترويكا، وترأس مؤسسة المجلس، وراهن عليه الأوروبيون كثيرا في نحت نظام سياسي جديد وديمقراطي في تونس. ولكن بعد انتهاء تجربة هذا التحالف الثلاثي، انسحب كثيرون من كوادر الحزب، ليشهد انهيارا ضخما ويصاب بالتفكّك، ولم يتمكّن من الحصول حتى على بلدية واحدة خلال الانتخابات أخيرا. كما اختفى زعيمه من المشهد السياسي، بصفةٍ تكاد تكون تامة.
‎حزب آخر أحدث مفاجأة كبرى، حيث انطلق بعدد قليل من المناضلين والمناضلات الذين تصدّوا للجنرال بن علي خلال أيام الجمر، فإذا بجزء مهم من التونسيين يلتحقون بصفوفه بعد الثورة، ويوفّرون فرصة ذهبية لمؤسسه، المنصف المرزوقي، ليصبح رئيسا للجمهورية. وبدل أن تكون هذه التجربة عنصر قوة وحصانة لهذا الحزب، إذا بها تتحوّل إلى لعنةٍ جعلت حزب المؤتمر ينقسم إلى أحزاب عديدة. على الرغم من ذلك، التفت مجموعة حول الرئيس المؤسس، وأقاموا تنظيما جديدا تحت عنوان "الحراك". وفي اللحظة التي يتهيأ فيها المرزوقي ليخوض غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو واثق بأنه سيفوز ويعود إلى قصر قرطاج، فإذا بحزبه ينهار مرة أخرى، حيث أعلن عشرات من كوادره الرئيسية استقالتهم الجماعية، متهمين القيادة بغياب الرؤية والخطة. كما حمّلوها مسؤولية الفشل، وأعلنوا رفضهم تكرار الخطأ السابق. ويقصدون بذلك المراهنة على دعم حركة النهضة، حيث يسود ظنٌّ بأن قيادة حزب النهضة أو قواعدها قد يراهنون من جديد على المرزوقي، ويعيدونه إلى الرئاسة، في غياب منافسين تطمئن لهم الحركة. وهكذا سقطت الصخرة من جديد، وعاد معها سيزيف إلى سطح الجبل..
‎في خط موازٍ، تعيش أحزاب اليسار تشتتا غير مسبوق، وتتعدّد المؤشرات عن وجود خلافات عميقة بين مكونات الجبهة الشعبية، قد يكون من نتائجها مزيد من الانحسار والتراجع، حسب اعتقاد أحد قادتها، في حين فقد حزب المسار (الحزب الشيوعي سابقا) أي وزن له في البلاد.
ماذا سيترتب على هذا المشهد الحزبي المفكّك؟
ستكون الديمقراطية التونسية مهدّدة بالتوقف والموت، في حال استمرار هذه الظاهرة، وعدم الإسراع بتجديد النخب السياسية، فالديمقراطية لا تعيش بدون أحزاب قوية، كما لن يُقبل التونسيون على الانتخابات، ولن يهتموا مستقبلا بالصراعات الدائرة بين هذه الكيانات الهشّة والمعزولة. ولن تبقى حركة النهضة بعيدةً عن هذه الحالة المرضية، خصوصا وأن الانتقادات الموجهة لزعيم الحركة، راشد الغنوشي، مما يعرف بـ "التيار الإصلاحي" في تصاعد مستمر. إذ يطالبه هذا التيار باحترام تعهداته، وأن تكون هذه الجولة من رئاسته الحركة الأخيرة في مسيرته الحركية. وفي حال عدم التزامه بذلك، قد تسير الحركة نحو الانقسام. وحتى لو حافظت "النهضة" على وحدتها، فإنها غير قادرة على الانفراد بالسلطة من دون شريك أو شركاء حقيقيين. ولهذا السبب، يستمر الغموض مهيمنا على المستقبل السياسي لهذه الديمقراطية الناشئة والمتعثّرة.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس