تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

01 يوليو 2020
+ الخط -

حين كان الصحفي المخضرم حسن إمام عمر مشرفاً على الصفحة الفنية بمجلة (المصور) في سنوات السبعينات من القرن العشرين، نشر في أحد أعداد المجلة مقالاً يهاجم فيه النجمة مديحة كامل، لأنها خلعت ملابسها وظهرت عارية تماما في فيلم جنسي قال إن اسمه (آرشي سكس)، وحدّد مكان دار السينما التي تعرضه، وقال إنها تقع في ليستر سكوير في لندن، ثم أضاف أن تلك المعلومات وصلته من طلبة مصريين مقيمين في لندن شاهدوا الفيلم، وأنه سمع بذلك أيضاً من زميله إبراهيم البعثي مدير تحرير مجلة (المصور) الذي كان في رحلة علاج إلى لندن، وختم مقاله باستعداء أجهزة الدولة الرسمية والنقابات الفنية على مديحة كامل.


قامت الدنيا ولم تقعد على مديحة كامل التي كان يمكن أن تدخل السجن بسبب ما تم نشره في مجلة قومية كانت وقتها واسعة الانتشار، أو كان يمكن أن تجلس في بيتها دون عمل على أقل تقدير، لولا أن ساق الله لها الصحفي حسين قدري الذي كان يعيش وقتها في لندن، والذي كتب مقالاً نشر في مجلة (الدستور) اللندنية بتاريخ 15 يناير 1979، قام فيه بتكذيب ما نشره حسن إمام عمر قائلاً: " يا عزيزي حسن إمام عمر أحب أن أطمئنك أولا أنني لا أعرف مديحة كامل شخصيا، ولا هي تعرفني شخصيا، ولم نتعامل معاً من قبل على الإطلاق، لا صحفيا ولا إذاعيا ولا تلفزيونيا، والذي أساء إلى سمعة الفن المصري هو أنت شخصيا وليس أحدا غيرك، وإذا كان بعض الطلبة العائدين من لندن قد أرادوا أن يغرروا بك ويضحكوا على ذقنك فقد نجحوا في ذلك، وإذا كان إبراهيم البعثي قد أكد لك ذلك فهو قطعا قد اختلط عليه الأمر، وإذا كان قد قال لك أنه قد شهد هذا الفيلم بنفسه ورأى فيه مديحة كامل فعلا فهو "كداب في أصل وشه"، وحرام عليه وعليك أن تطعنا فنانة مصرية في شرفها وعرضها وكرامتها.

فيلم آرشي سكس يا عزيزي حسن إمام عمر لا يزال معروضا حتى الآن في سينما رويال في شارع تشيرينج كروس في ميدان ليستر سكوير في لندن في حفلة العرض المتأخر التي تبدأ في الحادية عشرة ليلا وتستمر حتى السادسة صباحا وهو فيلم رخيص وتافه وحقير شأن كل أفلام الجنس العارية التي تعرضها دور السينما الدرجة العاشرة في لندن، وقد شهدته بنفسي بدافع الفضول بعد أن قرأت ما كتبته حضرتك في المصور عنه وعن مديحة كامل، وليس في بطلة الفيلم أدنى صلة ولا حتى مجرد شبه بمديحة كامل ولا حتى من بعيد، والحقيقة الوحيدة التي جاءت في كلامك كله هو أن هناك فيلم فعلا بهذا الإسم، ومنك لله يا حسن يا إمام يا عمر ولي في ذمتك عشرة جنيهات استرلينية ثمن تذكرتي السينما اللتين شهدنا بهما هذا الفيلم، فإنني لم أذهب وحدي طبعا".

حين روى حسين قدري هذه الواقعة في كتابه الممتع (حكايات صحفية) لم يشر إلى رد فعل حسن إمام عمر على مقاله، وهل قامت مجلة (المصور) بالإشارة إلى تكذيبه والاعتذار لمديحة كامل أم أنها تجاهلت الموضوع كما كان ولا يزال يحدث في الغالبية العظمى من الصحف والمجلات العربية التي تتجاهل نشر التكذيبات والتصحيحات، أو تقوم بنشرها في موضع خفي من الصحيفة وببنط صغير لا تسهل قراءته، وهي رذيلة ورثتها المواقع الإلكترونية عن الصحف الورقية، حيث تكتفي أغلبها بحذف الخبر المكذوب، دون الاعتذار لقرائها عنه، أو تقوم بنشر تصحيح مقتضب، ليبقى الوصول إلى التصحيح أو التكذيب أمراً متوقفاً على حظ من يمسهم الخبر الكاذب، وهل سيوقّف اللهم لهم أولاد الحلال مثل ما وقف حسين قدري مع مديحة كامل أم لا؟

....

قرأت تدوينة طويلة عريضة كتبها صديق "روائي شاب" كما يحب أن يصف نفسه، يتحسر فيها على أيام زمن النقد الجميل، ويذم أحوال نقاد هذا الزمان، ويقارنهم بنقاد الستينات والسبعينات والثمانينات الذين كانوا يعطون لكل ذي حق حقه، ومع أنني لا أشك في تردي الحالة الثقافية بكل جوانبها في هذا الزمن، إلا أنني تمنيت ألا يقع صديقي في فخ الزمن الجميل الذي ينسى أن ما نعيشه الآن لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة طبيعية لحالة ثقافية متردية منذ سنين طويلة، ولكي لا يتهمني بالافتراء على زمنه الجميل المتوهم، لم أجد أفضل من شهادة كتبها الروائي الكبير خيري شلبي في مجلة (فصول) في مطلع التسعينات تحدث فيها بمنتهى الصراحة عن أحوال النقد والمنقودين في مصر، فقال: "هذا مجتمع تحركه وتوجهه الدعايات والإشاعات التي هي أسرع من الريح في بلادنا، الإشاعة سرعان ما تصبح واقعا حتى بعد أن يثبت خطأها لا يبقى في الأذهان سوى الصورة التي رسمتها الإشاعة، وهي ظاهرة حديثة في المجتمع المصري، ربما كانت ثورة يوليو سببا كبيرا في تأصيلها، حيث ساد مبدأ التعتيم واحتجاز الأخبار وإخفاء الحقائق، مما حفز الناس على تأليف حقائق بديلة يستقرئها العقل الجماعي من شواهد الواقع أو يقترحها على غموض الأحداث، وتنعكس هذه الظاهرة على حقل الأدب والفن، فهناك كتاب صنعت لهم الدعاية والإشاعات سمعة حسنة حتى ليذكرهم بعض المتحدثين في الأدب بين الرواد وإن لم يقرأوا لهم شيئا، على أن الأشد خطرا هم أولئك الذين وهبوا مساحات في الصحف يملؤونها بمغالطات لا يمكن احتمالها، حيث توزع الأتعاب والأوصاف بسخاء وسفه، وتُطلق الأحكام الكبيرة والآراء الجائرة في بساطة مذهلة، فهذا من كبار الأدباء، وهذا العمل غير مسبوق وفريد في بابها، والقضية الفلانية قد تم حسمها بكذا، والحقل العلاني قد انعدم فيه كذا ولم يعد لدينا كيت وكيت.. إلخ.

هذا مجتمع تحركه وتوجهه الدعايات والإشاعات التي هي أسرع من الريح في بلادنا ولعل أمر النقد في بلادنا قد بات معروفا وواضحا للعيان، فهل ينكر أحد تدهور مستوى التذوق بشكل عام، واختلاط المفاهيم، وانفتاح باب النقد أمام الأدعياء الذين لا يعرفون مبادئ النقد بله أن يكون لهم فلسفة ونظرية ينقدون من خلالها. اللافت للأنظار حتما أن رواج أي كتاب أو كساده أمر لا علاقة له بالمقاييس الجادة المستنيرة الواعية، لا يشفع للكتاب فن عظيم يحتويه ولا موضوع كبير يطرحه ولا لغة فنية جديدة يستحدثها، هو مرهون بشخصية صاحبه ومدى ما تتمتع به من نفوذ أو إتاحة مكاسب أو حسن علاقات.

الأكثر لفتا للأنظار أن أمور النقد في صحفنا تمشي بالبركة، يعني أنت وحظك، ورقة الحظ معلقة على أول قلم يكتب عن كتابك، فإن كتب مادحا فإن جوقة تنبجس فجأة من خلف الظلام لتوسعنا مدحا في الكتاب وصاحبه كأنه الدرة اليتيمة، والجميع لا يقول سوى معنى واحد وكلمة واحدة تتكرر كل يوم كأننا مجموعة من البلهاء تلوم السأم بغير سأم، أما أن تصدى لك حظك العاثر في صدر محرر منحرف المزاج، فإن الجوقة نفسها سوف تنهال عليك ضربا وتمزيقا، والويل لمن أراد الإدلاء برأي مخالف لرأي الجوقة، إن الله وحده هو القادر على رد العدوان الرهيب الذي سيتعرض له، كل هذا قد يكون مفهوما، أما الذي لا يمكن فهمه هو تطوع ناس لا ناقة لها في الموضوع ولا جمل، بالمشاركة في أي حملة تشن الهجوم على أحد الأشخاص أو الأعمال الفنية، دون روية أو تبصر، فتلك فئة من الناس يحلو لها أن تقرأ اسمها منشورا، فينتهز أحدهم فرصة قيام حملة تشنها الصحيفة على شخص أو عمل، فيسارع بإرسال مقالة تؤيد ما ذهبت إليه الصحيفة، وقد يخترع أحداثا ويؤلف ذكريات يفتئت بها على موضع الهجوم".

وإذا كان الأستاذ خيري شلبي قد كتب هذا الكلام في عز تحققه وتألقه، فما الذي كان يمكن أن يكتبه كتاب أقل نجاحاً وتحققاً عن زمن النقد الجميل الذي يتوهمه صديقي؟
 

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.