تمثلات الهوية في رواية "أنا وحاييم"... للجزائري الحبيب السائح

تمثلات الهوية في رواية "أنا وحاييم"... للجزائري الحبيب السائح

08 ابريل 2020
+ الخط -
تتناول رواية "أنا وحاييم" الصادرة عن دار ميم ومسكيلياني للنشر 2018، والفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية 2019، العديد من المواضيع المثيرة للجدل في الوسط الثقافي الجزائري..

منها: مساءلة التاريخ قبل الاستقلال وبعده، الحرية، الفساد، التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، وعلاقة الأنا بالآخر المختلف، أي المستعمر الفرنسي، وشخصية حاييم اليهودي الواردة في العنوان. وقبل البدء، يمكننا أن نتساءل: هل تحكي الرواية قصة حاييم اليهودي، أم تحكي قصة كفاح شعب؟ أم أنها تكتفي بطرح الأسئلة؟

سلطة العنوان .. وهوية الآخر
مثلت "الهوية والغيرية" إشكالية في المجتمع العربي، خاصة ما تعلق منها بموضوع المواطنة بين أطياف المجتمع الواحد. وتتجسد الهوية في سلوكات الأفراد وطقوسهم الحياتية، وتأخذ أشكالاً عنيفة بحضور الغيرية المضادة لهوية الأنا، لذلك، فإن توظيفها في الرواية كثيمة أساسية غالباً ما تثريها، وهو ما سعى إليه مؤلف "أنا وحاييم"، إذ تجلّى الآخر في عتبة النص الأولى المتمثلة في العنوان.

يمثل العنوان المدخل الأساسي لفهم النص، ومنه "تتولّد معظم دلالات النص وأبعاده الفكرية والإيديولوجية". يأتي العنوان في هذه الرواية على شكل جملة إخبارية تتضمن ضمير المتكلم "أنا" الدال على الذات الجزائرية المسلمة، واسم حاييم الذي ينتمي إلى منظومة ثقافية مختلفة، باعتبار أن الأسماء عادة ما تشكل هوية المجتمع وذاكرته، وتقاليده التي تميزه.


ارتبط اسم حاييم في المخيال الجمعي الجزائري بكيان محتل اغتصب الأرض وشرد سكانها بالقوة، مما تسبب في رفض اليهودي على المستوى الشعبي والرسمي، ليحدث بذلك التصادم الأول بين القارئ والنص، فهذا العنوان يحيل بالضرورة على مضمون النص، لأنه من العناوين المباشرة الحاملة لأسماء شخصيات توجد في الرواية، ومن هنا تتشكل في ذهن القارئ عدة أسئلة، تثير فضوله وتجذبه للغوص في النص، لمعرفة هوية هذا اليهودي وعلاقته بالأنا، وبذلك يحقق العنوان وظيفته الإغرائية.

وبالغوص في النص، يمكن للقارئ أن يتعرف إلى علاقة الصداقة المتينة بين السارد أرسلان حنيفي وصديقه حاييم بنميمون، المنتمي إلى الطائفة اليهودية التي تقطن في مدينة سعيدة. يستعيد السارد بضمير المتكلم تفاصيل حياته بدءا من طفولته ودراسته، ومشاركته كطالب جامعي، في نشاطات الطلبة الذين أسهموا في التحضير لاندلاع الثورة.

ولأن الهوية تبرز بكثافة في الأزمات التاريخية أو التحولات التي تشهدها أمة ما، استطاع السرد أن يسلط الضوء عليها بشكل جلي؛ قبل الاستقلال وبعده، فالمستعمر الفرنسي المختلف ثقافيا وحضاريا مثّل "الآخر" لكل من أرسلان وحاييم، فهو لم يفرق في تعامله العنصري بين الأهالي؛ إذ احتل أرضهم وشردهم، وأصر على محو هويتهم، لكن الجزائري تشبث بهويته التي دافع عنها بالسلاح. وإذا كان المستعمر قد منح حق التجنيس لليهود الجزائريين، فإن حاييم رفض ذلك، (لا أشعر بأني فرنسي)، وظل مخلصا لوطنه الجزائر، رافضا عنصرية المحتل ضد الأهالي، مما سبب له عداء الفرنسيين، الذين أحرقوا صيدليته باعتباره عدوا.

في مقابل ذلك، وقف حاييم في صف الثورة، وقدم الدواء للمجاهدين، لكن بعد الاستقلال، ظهرت ملامح إعادة تشكيل هوية جديدة، ترفض حتى المواطن الجزائري المختلف في الدين، تجلى ذلك في موقف بعض الأهالي من حاييم الذي أصبح في نظرهم عدوا يجب محاربته، فاقتحموا بيته، لكن صديقه أرسلان تمكن من صدهم بالقوة، معتبرا حاييم مواطنا جزائريا، مثله مثل باقي الجزائريين الذين حاربوا المستعمر، وهنا يبرز الموضوع الأهم الذي سلطت الرواية الضوء عليه؛ وهو تقديم صورة مثالية للتعايش بين أبناء الوطن الواحد، بغض النظر عن اختلاف دياناتهم أو أعراقهم، تجسد ذلك في صداقة أرسلان المسلم بحاييم اليهودي الذي قُدِّم كمثال للرجل الصالح الخالي من الأخطاء، فبدت الرواية وكأنها تعيد ترميم صورة اليهودي في المخيال الجمعي الجزائري، خاصة ذاك اليهودي الذي آمن بقيم ثورة التحرير، ورفض الهجرة،(فلسطين ليست أرضي ولا وطني)، لكن لا ندري إن كانت محاولة الترميم هذه تستلزم تقديم نموذج يهودي جزائري، يتسم "بالتسامي والطهرانية"، زاهدا في ملذات الحياة؛ فحاييم شاب لا يشرب الخمر ولا يدخل الحانات، وفي الجامعة يرفض التجاوب مع الفتيات، وهو عكس ما يحدث مع أرسلان الذي ينغمس في ملذاته بكل حرية، وحين يلوم حاييم، يرد عليه: (احترق أنت لوحدك في هذه الدنيا وفي الآخرة).

هذه السردية الموغلة في المثالية والطهارة الخالصة لشخصية اليهودي جعلتها شخصية خارجة عن المألوف، وتقديمها بهذا الشكل لا يخدم إلا فكرة الكاتب التي سخر لها كل إمكانات السرد؛ والمتعلقة بتغيير نظرة القارئ الجزائري للآخر/ اليهودي، وإن كان ذلك على حساب الموضوعية في رسم شخصية يمكن للقارئ أن يتقبلها فنيا.. تبدو شخصية حاييم ثابتة تسير على وتيرة واحدة، من البداية إلى النهاية.

قدّم السرد كثيراً من المعلومات والأحداث التاريخية التي لا نعلم مدى صدقيتها، والاعتماد عليها كمصدر للتوثيق التاريخي، باعتبار أن الرواية لا تقدم الحقائق، بل تثير الأسئلة، وهو ما أدركه المؤلف جيدا، إذ سعى إلى تحريض ذاكرة القارئ، بإثارة المواضيع التي كان الاقتراب منها يعدّ من المحرمات.