تمثال الحرية الأسود

تمثال الحرية الأسود

28 يونيو 2020

(Getty)

+ الخط -
ماذا لو اقترح أحدٌ ما طلاء تمثال الحرية بالفحم الأسود، بدل الجير الأبيض؛ هل سيُقبل اقتراحه؟ أم يجب أن يظل هذا اللون، وهو في الأصل خليط من عدة ألوان، قائما ليس بذاته، إنما بأفعاله التمييزية، طالما ثمّة مستفيدون حريصون على بقاء دلالاته الرمزية والواقعية؟ 
قال مرة رئيس زيمبابوي السابق، روبرت موغابي، عبارة ذات دلالة نفسية، "العنصرية لن تنتهي أبدا، إذا كان الناس لا يزالون يرتدون ملابس بيضاء لحفلات الزفاف وسوداء في العزاء والجنازات". كأنما يشير إلى أن المسألة تتعلق بما رسخ في الذهن وانطبع في النفس، أن اللون الأسود لا بد أن يدل على كل سلبي في حياتنا، مع أنه يمكن أن يرمز إلى أمور أخرى لا يٌلتفت إليها إلا تجاريا، منها الأناقة والتناسق، فالأسود، كما يقال، لونٌ يتناسب مع أي لون.
في فيلم "اللون القرمزي" للمخرج ستيفن سبيلبرغ، تصفع ممثلةٌ سمراء أدّت دورها الإعلامية الأميركية، أوبرا وينفري، امرأة بيضاء، ولم يُكتفَ بسنوات الحبس التي أقرّتها المحكمة، بل تعرّضت لأنواع من الإهانات والضرب، بقصد أن ينزع من دواخلها ذلك الشعور بالندّية. وحين خرجت من السجن، كانت تنطق الكلمات ببطء، حيث سحقت دواخلها.
السود، أو "الأميركان من أصول إفريقية" كما يسميهم الإعلام، مذكّرا إياهم بأصولهم السوداء، ساهمت قارّتهم الأصلية، بطريقة مباشرة، في صنع حضارة الغرب، فحسب ديورانت في "موسوعة الحضارة"، يساهم في صنعها العلماء والحرفيون والفنانون، ففي الأدب والفنون مثلا، ألهمت إفريقيا بيكاسو فن التكعيبية، وألهمت غوغان معظم لوحاته الخالدة، ناهيك عن موسيقيين كثيرين، ولا تُنسى روايات عالمية، مثل "كوخ العم توم" و"قلب الظلام".
فنون كثيرة روائية وسينمائية عكست هذا التمييز واقعيا، قبل أن تعكسه كاميرات المصادفة، فوجود رجل أسود بين البيض، سواء في السينما أو الرواية، يجب أساسا أن يقوم على الصراع، ونشدان التكافؤ، وكأنما بذلك يسعى جاهدا إلى الارتقاء عن الحالة التي رأينا، بأن يموت مختنقا تحت ركبة شرطي أبيض. وهي حادثة تعبّر، من دون رتوش، عن تجليات ركام من اعتمال مشاعر السخط والكراهية على الآخر، وفي مقدمتهم الأفارقة والعرب. وينسحب على سياسة أميركا الخارجية التي تتصف بالعنصرية الفجة والكراهية الصارخة والمبطنة، فما فعلته أميركا في العراق غير خاف على أحد، وهو ما اعترف بشيء منه الحاكم الأميركي هناك، بول بريمر. كان تدميرا ممنهجا، بدأ بتسريح الجيش العراقي الذي تحوّل إلى مليشيات، ضمن خطة بعيدة المدى لنشر الفوضى والدمار في بلدٍ كانت تتعايش فيه مختلف الحضارات والثقافات. وكانت الواجهة الإعلامية أن أميركا خلصت العراقيين من ديكتاتور. ولكنها في الحقيقة الماثلة مزقت بلدهم وأضعفته، وعزّزت الاحتراب الطائفي فيه، وأرجعته عقودا إلى الوراء، ثم أسلمته فريسة جاهزة لمختلف الرياح الخارجية. والدعم الأميركي اللامحدود للمشروع الصهيوني، والصمت (يعني التشجيع) على القتل المستمر، وعلى نهب ما تبقى للفلسطينيين من أرضهم، خير دليل.
وإذا كانت كاميرات المصادفة قد التقطت ما أجّج السود في مختلف البلدان التي يعيشون فيها، فلا بد أن ثمّة مشاهد أخرى قد مرّت من دون أن توثقها هذه الكاميرات.
يقال إن العرب شركاء "عقليون" في صنع الحضارة الغربية، كما ألمح كثيرون، مثل الفرنسي جاك بيرك، ودللت عليه كتب مستشرقين موضوعيين، منهم "شمس العرب تسطع على الغرب" للألمانية زيغيرد هونكه التي قالت: "إن كل صيدلية أوروبا مدينة لابن البيطار". وأخيرا، صرح الروائي الإسباني، أنطونيو غالا، صاحب رواية "المخطوط القرمزي"، بمناسبة اقترابه من عمر التسعين، إن "أروع الأشياء في إسبانيا جاءت من الحضارة العربية، بل أجمل المهن وأغربها وأدقّها، وكذلك ميادين الإدارة والفلاحة والملاحة والطب والاقتصاد والبستنة والعمارة والري وتصنيف الألوان والأحجار الكريمة والصناعات التقليلدية، معدنية أم فخارية، وغير ذلك الكثير، كلها تنحدر وتأتي من اللغة والحضارة العربية".
الأفارقة كذلك شركاء "يدويون" ساهموا في تقدّم المجتمع الغربي، في طوره الزراعي الأول وبعده، في النقلة الصناعية في القرن التاسع عشر، حين كانوا يُستقدمون إلى أوروبا وأميركا من أجل السخرة والأعمال الشاقة، فلم يكن ذلك التقدّم ليتم، بالصورة السلسة والسريعة، لولا مشاركة السواعد السمراء.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي