تلك الإدارة الذاتية في الشمال السوري

تلك الإدارة الذاتية في الشمال السوري

18 فبراير 2019
+ الخط -
يقال دوماً إن التاريخ يعيد نفسه، قد لا يكون بشخوصه، ولا بالمعطيات نفسها. ولكن غالباً تكون الجغرافيا نفسها المناخ الأفضل للتاريخ كي يعيد نفسه، وهو التاريخ نفسه ملقن جيد للدروس، ومن يتعظ من دروسه، يتِح لنفسه فرصة التحرّك بشكل أفضل في الحاضر.
نشر صديق، قبل أيام، ملخصاً عن حياة المستشار الألماني الأسبق، هلموت كول، وكيف استطاع أن يرضي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، ويعطيهم ما تيسر له، في سبيل توحيد الألمانيتين في تسعينيات القرن الماضي، والحديث هنا يطول عما فعله كول في طريقه للوصول إلى ألمانيا موحدة وقوية كما نعرفها اليوم.
حاضراً، تتركّز الأنظار في الشمال السوري، وخصوصا في الشمال الشرقي، حيث أضحت عقدة العقد في القضية السورية، فالولايات المتحدة الأميركية صاحبة الكلمة والنفوذ، والذي لم يصدق أحد، لا الحلفاء ولا الخصوم، نيتها الانسحاب الفعلي المعلنة من المنطقة، فهي تعي جيداً أنها إذا انسحبت فعلياً من هذه المنطقة لأيٍّ كان، تخسر آخر أوراقها في القضية السورية.
إلى جانب ذلك، تقف تركيا طامحةً للظفر بما يمكن تحصيله ضمن المنطقة الآمنة لها، سواء بحجة محاربة وحدات حماية الشعب (الكردية) ودحر الأخطار على أمنها القومي، أو بحجة البحث عن حيزٍ آمن، لتحل معضلة اللاجئين الذين تستقبلهم وتضغط بورقتهم على أوروبا في حال حادت عن المسار الذي يدعم التوجه التركي. وفي المقابل، تترقب روسيا التي تدير اليوم ثلاثة أرباع التراب السوري بالشراكة مع حليفها الإيراني اللدود، الوصول إلى حلٍّ منشود.
ووسط هذه المعمعة، تحاول "الإدارة الذاتية" أن تجدّف بقاربها لتصل، بما بنته خلال السنوات الفائتة، إلى بر أمانٍ يقيها أي هجوم تركي، ما انفكّت أنقرة تلوّح به، أو عودة منتصرة للنظام 
السوري، إن أكرهت الإدارة على قبوله، لدرء الخطر الأول.
في السياق، بطبيعة الحال، تختلف المعطيات بمقارنة حال "الإدارة الذاتية" اليوم وقادتها السياسيين مع حال المستشار هلموت كول، وإدارته آنذاك، في نقاطٍ كثيرة، لكن القاسم المشترك بين الحالتين هو طبيعة المأزق الذي عاشته إدارة كول وتعيشه الإدارة الذاتية اليوم، وهو كيفية إرضاء فرقاء أقوياء في سبيل الحفاظ على الذات الهشّة. وأيضاً، بالمقارنة بين الإدارتين، يلفت النظر أن المستشار الألماني كان يعي تماماً خطورة حقل الألغام الذي يسير فيه، ويعترف بهذا الخطر، عكس الإدارة الذاتية التي لا تشي تحرّكاتها، لا على الصعيد الداخلي بالتعاطي مع جمهورها، ولا معارضيها بإداركها حقيقة المأزق الذي تعيشه، ولا التحرّك على الصعيد الخارجي، يظهر إدركها حقيقة ما هي عليه، بل تتصرّف وكأنها هي المنتصر، حاملةً بيدها ورقةً واحدة، وهي أنها تحارب الإرهاب، مع أنها ليست بالحجّة الواهية، ولا هي بالخطأ، ولكن في لعبة الدول والمصالح تصبح هذه الورقة تفصيلاً بسيطاً، فهناك كثيرون ممن يطرحون أنفسهم بدائل عن قوات الإدارة الذاتية لمحاربة الإرهاب الذي تعلو أصواتٌ هنا وهناك إن المعركة معه وصلت إلى نهايتها، ولا داعي اليوم للتحجج بها.
إذن، يبدو أن الواقع اليوم يحيل إلى الطاقم الدبلوماسي للإدارة الذاتية نحو اتخاذ خطواتٍ لا بد منها للخروج بأضعف الخسائر من معركةٍ هي فيها الحلقة الأضعف كما يبدو حتى الآن، وهي:
أولا، التخلص من المشكلات الداخلية، والسعي بجدية بعيداً عن الخطابات المعدّة للاستهلاك الإعلامي، لإشراك الفعاليات السياسية في منطقةٍ حكمها في العملية السياسية، لتكون بذلك أمنت جبهتها الداخلية.
ثانيا، التصرّف وفقاً للواقع الذي تعيشه اليوم، بعيداً عن الخطابات "الثورية" التي قد تؤتي أكلها في شحذ همم جمهورها ومواليها، لكنها لا تغيّر في الحقيقة شيئاً.
ثالثا، التحرّك على جميع الأصعدة، وفتح باب الحوار مع الأطراف مجتمعة، ومعرفة علّة كل طرف، ومحاولة تقديم ما يمكن لكل طرف، كي تقي ذاتها شرّه.
رابعا، تجنيب منطقة نفوذها الأخطار المحدقة، وفي مقدمها الخطر التركي، والتعاطي مع الوجود التركي في المعادلة السورية على أنه أمر واقع، لا تفيد خطابات الاتهام بدعم الإرهاب في تغيير الواقع من شيء، خصوصاً وأن لتركيا ما لها من وزن في المعادلة الدولية.
خامسا، دحض الحجج التركية بالارتباط بحزب العمال الكردستاني، وعلّها هذه تكون من أصعب المهام التي ستواجهها الإدارة الذاتية، خصوصا وأن كوادر الإدارة مشبعة بهذه الأيديولوجيا طوال عقود مضت.
سادسا، فتح أبواب التعاون مع الدول الباحثة عن نفوذ في مناطق شرق الفرات، سيما في ظل الحديث عن وجود محتمل للناتو العربي في المنطقة.
قصارى القول، نجح هيلموت كول في مهمة إرضاء الفرقاء الدوليين، ليصل إلى ألمانيا موحدة، بالدبلوماسية والاعتراف بالواقع كما هو عليه. وتحرّك وفق المعطيات الواقعية، واليوم على الإدارة الذاتية، وباقي الأطراف السياسية الكردية في سورية، التحرك وفقاً للواقع المعاش، لا الواقع الذي يتوهمون أنهم يعيشونه.
4F700392-BBF1-4EAE-85C5-26CEE52F1595
4F700392-BBF1-4EAE-85C5-26CEE52F1595
باز بكاري
باز بكاري